لا ينفكّ الواقعُ اللبناني «يبتدع» سيناريوهاتٍ «ولا في الخيال» تُحاكي إمعان أطراف السلطة في «سياسة النعامة» فيما الأزماتُ المالية – النقدية – الاقتصادية – المعيشية «تنهش» البلاد التي تُحاصِرها في الوقت عيْنه «الأمواجُ العاتيةُ» الإقليمية.
فبعد تحذيراتٍ خارجية عدّة أعقبت اندلاع «ثورة 17 اكتوبر» من أن يعمد الائتلاف الحاكم إلى معالجة الأزمة «العميقة» التي عبّرت عنها الانتفاضة (كما رزمة المشاكل المالية – الاقتصادية) على طريقة «تبديل المقاعد على سفينة تايتنيك»، انزلق أهل الحُكْم في الأسابيع الأخيرة إلى ما هو أدهى مع انخراطهم في «عِراكٍ» بدا وكأنه يدور على آخِر جزء لم «تبتلعه» المياه بعد من السفينة الغارقة.
ولم يكن ينْقص هذه الصورة «الدراماتيكية» التي ارتسمت لدى دوائر ديبلوماسية من تَلقّي لبنان الذي بات يقف على أقرب مسافة من مصافي «الدول الفاشلة» ضربةً مدوّية لما تبقى من «سمعة دولية» له، مع خسارة «صوته» (حقه بالتصويت) في الجمعية العمومية للأمم المتحدة بسبب تَخَلُّفه لأول مَرّة في تاريخه عن عدم تسديده الاشتراكات المالية المتوجبة عليه للمنظمة الدولية.
وقد حجبَ هذا التطورُ الذي اعتُبر مشيناً بحق الطبقة السياسية ومهيناً لمكانة لبنان، الذي ساهَمَ في تأسيس الأمم المتحدة وكانت له بصمة مضيئة في وضْع الإعلان العالمي لشرعة حقوق الانسان (عبر شارل مالك)، الأنظارَ عن عناوين داخلية بارزة، ليس أقلّها عودةُ ملف تأليف الحكومة العتيدة إلى المربّع الأوّل مع ارتفاع «المتاريس» السياسية بين أركان التحالف الثلاثي (فريق رئيس الجمهورية ميشال عون والثنائي الشيعي حزب الله وحركة أمل) وبين الرئيس المكلف حسان دياب، واستعادة الانتفاضة الشعبية زخمها القوي في الشارع عبر تحركات أمس في أكثر من منطقة احتجاجاً على منطق المحاصصة الذي يُدار معه مسار التشكيل ومجمل الواقع المالي – الاقتصادي – المعيشي الذي يُنذر بـ «سيناريواتٍ مُرْعِبَة» بدأت تطلّ برأسها منذرةً بتحويل البلاد «علبة كوابيس».
وجاء تعليقٌ نُقل عن أحد الصحافيين الكبار في الأمم المتحدة وفيه «تخيّلوا كوريا الشمالية وسريلانكا وبنغلادش وبوركينا فاسو يستطيعون تسديد اشتراكات الأمم المتحدة ولبنان عاجز»، ليعبّر عن جزء بسيط من «الأضرار» المعنوية والديبلوماسية والسياسية لاستهانة السلطة في لبنان بمصالح الدولة وعلاقتها مع المنظمة الدولية التي تشكّل حجر الزاوية في مظلّة الدعم الخارجي لـ «بلاد الأرز».
وعلى جري العادة في مثل هذه المحطات المُرْبكة، اختار أطراف الائتلاف الحاكم في مقاربة أفول صوت لبنان في الأمم المتحدة «أسهل الطرق» عبر تقاذُف المسؤوليات والتراشق بمكبرات الصوت بين وزارتيْ الخارجية والمال، وسط إيعازٍ «بدفْع المبلغ المتوجّب يوم الاثنين» (غداً)، كما جاء في بيان عن «المالية» في معرض تعليقها على المستحقات المتوجبة للجمعية العامة للأمم المتحدة، وتأكيدها أنها «لم تتلق أيّ مراجعة أو مطالبة بتسديد أي من المستحقات المتوجبة لأي جهة (…) والمراجعة الوحيدة تمت صباح اليوم (امس)».
وجاء هذا البيان بعدما كان وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال جبران باسيل أعرب عن الأسف «لإعلان الأمم المتحدة أن لبنان هو من بين الدول التي لا يحق لها المشاركة في التصويت في الهيئة العامة لأنه لم يسدّد الاشتراكات المتوجّبة»، موضحاً أن «الوزارة قامت بكل واجباتها وأنهت جميع المعاملات ضمن المهلة القانونية، وأجرتْ المراجعات أكثر من مرّة مع المعنيين دون نتيجة»، وذلك قبل أن يندلع سجال بالبيانات بين «الخارجية» و«المالية» حول المسؤولية عن التأخّر في دفْع المستحقات (لم يتم تحديدها).
وأتى هذا التطور الصادِم بينما كان مسار تأليف الحكومة «ينهار» على وقع «خطوط تماسٍ» مفاجئة عَكَستْ أن هذا الملف عاد إلى «ثلاجة انتظارٍ» مكْلِف.
وأمكن اختصار وضعية «مقفَل» التي بلغها الملف الحكومي بالآتي:
* «البلوك» الذي وَضَعه عون أمام الرئيس المكلف الذي كان يمضي نحو حكومة اختصاصيين من 18 وزيراً تسمّيهم أحزاب «التحالف الثلاثي» وحلفائهم، قبل أن يصطدم بشروط فريق عون («التيار الوطني الحر» برئاسة باسيل) وبينها تحبيذ توسيع الحكومة إلى 24 وزيراً من «الجديرين والمجرّبين»، والتمسك بتسمية الوزراء المسيحيين (9) باستثناء واحد لتيار المردة (برئاسة سليمان فرنجية).
* مباغتة رئيس البرلمان نبيه بري، دياب بالارتداد الكامل على صيغة حكومة الاختصاصيين محيياً الحكومة التكنو – سياسية لزوم ملاقاة المرحلة الاقليمية الدقيقة والواقع الداخلي الحرج مع تلويح بعدم المشاركة في الحكومة خارج هذا المعيار، وسط مؤشرات إلى أن بري الذي يرفض بشدة منْح باسيل الثلث المعطّل في الحكومة يضع «عيْنه» على استدراج الرئيس المستقيل سعد الحريري للعودة إلى رئاسة الوزراء وهو ما لا يُبدي «حزب الله» حتى الساعة حماسة له ولا عون إلا إذا حصل من ضمن تفاهُم مع باسيل.
* إن دياب، الذي يتعاطى كمَن ليس لديه ما يخسره، هو المكشوف سنياً ويشعر بأن حلفاءه «انقلبوا عليه»، بات يتمترس في موقع هجومي بوجه مَن تخلّوا عنه ودفاعي عن صيغة الاختصاصيين واستطراداً عن موقع رئاسة الوزراء، وهو ما عبّر عنه بيان «الجردة» عما رافق الأسابيع الثلاثة الماضية بعد تكليفه إذ أكد أنه لن يقبل أن تصبح الحكومة مكسر عصا وأنه سيكمل مشاوراته لتشكيل حكومة تكنوقراط مصغرة «ولن أرضخ للتهويل».
واكتسب البيان الذي صدر أمس عن وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي دلالة بالغة على ما وصلت إليه الأمور بين عون ودياب، إذ أكد «أن رئيس الجمهورية ليس ساعي بريد أو صندوق اقتراع في عملية التكليف والتسمية»، معلناً «ضنّاً بالوطن والشعب والوقت الغالي الذي يُهدر، كفانا حرب صلاحيات ومهاترات وبكائيات ونُصرة مزعومة لمواقع في الدولة هي من أحجار الزاوية في النظام الدستوري اللبناني وليست قطعاً (مكسر عصا)».
وما عزّز الاقتناع بأن عربة التأليف ارتدت إلى الخلف بقوة، تسابُق الأطراف الأساسيين في التحالف الثلاثي على «التهديد» بعدم المشاركة في الحكومة العتيدة، ذلك أنه بعد بري نُقل عن قريبين من باسيل أن «التيار الحر» لن يكون له أي وزير في حكومة دياب»، فيما دَخَلَ فرنجية على «الخط نفسه» معلناً إما وزيران لنا أو قد لا نشارك.