كتب رولان خاطر في صحيفة “الجمهورية”:
إستعادت الانتفاضة زخمها مع انطلاق «الغضب» المخزّن سنين في صوامع النفوس تجاه فساد «شاذ» لم تشهده الجمهورية اللبنانية.
الإحتجاجات عمّت البلاد وكأنّه 17 تشرين 2019. العناوين نفسها والمطالب نفسها، حكومة اختصاصيين مستقلّين، ولا شيء غير مستقلّين. فالتسويق لحكومات سياسية تحت عنوان «لمّ الشمل» أو «حكومة أقطاب» أو «حكومة جنرالات»، بحجة مواجهة تطورات المرحلة الاقليمية، أكّد الشارع أنّه سيُسقطها دوماً ولن يقبلها تحت أي مسوغ، رافضاً التعاطي الفوقي مع حكومة التكنوقراط وكأنّها حكومة عاجزة و«مخصيّة».
هذه الرسالة أوصلها المنتفضون أمس، عبر إقفال كل ساحات لبنان من وسط العاصمة الى الشمال الى الجنوب، معلنين أنّ مرحلة الانتفاضة ولّت، وبدأت مرحلة الثورة، في رسائل واضحة لكل من يعنيه الأمر مفادها:
أولاً، لن يقبل الشارع بأيّ تسويات، ولن يخضع لأي صفقات تعيد القديم الى قدمه، أو جديداً «مستزلماً» لهذا الفريق أو ذاك الزعيم.
ثانياً، لا تراجع عن مطالب 17 تشرين، أي حكومة اختصاصيين مستقلين مهمتها الاساسية إنقاذ لبنان من مستنقع الانهيار قبل الغرق النهائي، عبر خطة اقتصادية ومالية مُحكمة من جهة، وعبر سلسلة اجراءات من جهة ثانية، تمنح الثقة للمجتمعين العربي والدولي، لكي يبدأ بفتح صناديقه أمام الدولة اللبنانية.
ثالثاً، لم يعد في الإمكان الوثوق بأيّ حكومة، تضمّ ولو سياسياً واحداً، على ضوء السلوك الذي ظهر في فترة التشكيل والتأليف الآن، وصولاً الى الإنحدار الأخلاقي في عدم سداد اشتراك لبنان في الأمم المتحدة، وعلامات استفهام كثيرة عن مصير الأموال، في ضوء تقارير وزارتي المال والخارجية المتناقضة، وليس آخراً المعلومات التي وردت عن إرجاء المسؤولين اللبنانيين اجتماعاً كان مقرراً مع صندوق النقد الدولي، ما عُدّ استهتاراً غير مسبوق لم يرَ العالم مثيله.
رابعاً، يُدرك الشارع تماماً من يحاول اليوم ركوب موجة الانتفاضة واستغلالها لتحقيق مكاسب سياسية. وبالنسبة إليه الجميع مرحّب به تحت عناوين وشعارات ومطالب 17 تشرين، والسير وراء الانتفاضة وليس امامها. وبالتالي، كل محاولة لحرف مسار الشارع عن هدفه لن يُكتب لها النجاح، والشارع لن يقبل بتحويل معركة التجويع والتفقير الى معركة سياسية، ولن يقبل باستغلاله بيدقاً في رقعة شطرنج السلطة.
لذلك، علامات استفهام كثيرة تُطرح حول الاجراءات التي تلازمت أمس مع التحرّكات الشعبية وغض النظر عن عودة قطع الطرق خصوصاً في جل الديب والزوق. حيث سأل المراقبون عمّا اذا كانت السلطة تختبئ وراء الانتفاضة، أو بالأحرى، تستغلها من أجل الانتقام من حسان دياب وإسقاطه، علماً أنّ الحضور الشيعي المنتمي الى بيئة «حزب الله» وحركة «أمل» كان لافتاً في هذا التحرّك، بدءاً من الوقفات امام مصرف لبنان في الحمرا أول من أمس، وصولاً إلى الوقفات الاحتجاجية على جسر الرينغ. إذ سأل المراقبون عن مصلحة «حزب الله» و«أمل» وفريق السلطة في اعتماد الليونة أمام ظاهرة قطع الطرق التي أصلاً حرّمتها السلطة بأمر من الحزب.
هذه الأجندة لا تتلاءم أبداً مع اجندة المنتفضين الجائعين، وحسان دياب ليس قاسماً مشتركاً بينهما، ولو انّ بعض المنتفضين يطالبون برحيله، فخلفية الفريقين تختلف. المتظاهرون يريدون شخصيّة مستقلة لا شوائب حولها، تحمل مخططاً إنقاذياً، وهم متوجسون من طريقة وصول دياب وليس من شخصه، فيما أهل السلطة يريدون إنتاج حكومة على صورتهم ومثالهم، وهو امر يعارضه دياب، على الأقل في العلن.
بالتوازي، لم يعد في الامكان اليوم أن يراهن من راهن في السابق على خيارات خاطئة أن يستمر، لأنّ مسار الأزمة يسير سريعاً نحو الانهيار. ونظرية انّ الخارج سيهرع لنجدة لبنان ومدّه بالمال، لأنّ انهياره ينعكس سلباً عليه، اثبتت فشلها. كما انّ التنقيب عن النفط سيدّر على لبنان الأموال الوفيرة في بداية 2020 أيضاً نظرية أثبتت عقمها، وبالتالي، لم يعد الحل ممكناً إلّا أمام حكومة اختصاصيين مستقلين تستقطب ثقة المجتمع الدولي، وتحمل في جعبتها السلاح اللازم والضروري لمواجهة الأزمة الاقتصادية والمالية، لأنّ لبنان لن يرى دولاراً واحداً من الغرب ولا من العرب، ما دامت هذه السلطة تنصّب نفسها الخلاص الوحيد والحل للمرحلة المقبلة.
وحكومة الاختصاصيين بداية الحلّ وليست الحلّ الكامل. إذ يجب أن تعقبها انتخابات نيابية مبكرة وفق قانون يتيح تمثيلاً صحيحاً لكل المكونات المجتمعية، وهذه الانتخابات قد تأتي بنتائج سلبية في الوقت الحالي اذا لم تتحضّر لها الشروط المطلوبة بنيوياً ولوجستياً، علماً أنّه تسرّب أنّ الثنائي الشيعي يدرس موافقته على إجراء انتخابات نيابية مبكرة وفق القانون النسبي ضمن لبنان دائرة انتخابية واحدة، وهو طرح الرئيس بري التاريخي، إلّا انّ هذا الأمر قد يكون سيفاً ذا حدّين. فمن جهة، إجراء الانتخابات على اساس لبنان دائرة واحدة لا يفيد الانتفاضة ويضرّ بكثير من المكونات اللبنانية، ومن جهة ثانية، الاعلان عن هذا الطرح في الكواليس، قد يكون لإيقاع الانتفاضة في الفخ للعودة عن مطلب الانتخابات المبكرة، خصوصاً أنّ هناك عاملين اثنين لا يمكن التقليل من اهميتهما، أولاً، حجم التغيير على مستوى الرأي العام بعد 17 تشرين الأول 2019، وثانياً، إصرار السلطة على منع ترجمته سياسياً، وبالتالي منع هذا الرأي العام الجديد من إحداث اي تغيير في بنية وتركيبة هذه السلطة.
من هنا، مسؤوليات كبيرة على عاتق الانتفاضة، في ظل وضع سلبي يؤشر إلى أنّ البلد يغرق أكثر فأكثر إلى قعر لائحة الدول المارقة. أولى هذه المسؤوليات، طرح بدلاء للحكم، رجال دولة لا يتلهفون للسلطة والمال، نقيض المستفزين الفاشلين الذين وصموا هذا العهد عاراً وذلّة. لكنّ طرح البديل، ليس عملية سهلة، فالأمر يحتاج بادئ الأمر الى أهمية تنظيم صفوف الانتفاضة، ولو بشكل أفقي، والتنسيق وفق شروط وعناوين تغييرية، والتحضير سياسياً وشعبياً للوصول إلى انتخابات مبكرة تستطيع من خلالها الانتفاضة أو «الثورة» طرح ممثليها للمنافسة الانتخابية وتحقيق ربما الأكثرية في البرلمان، خصوصاً أننا امام معطيات خارجية قد تساعد في التأثير على مسار الأحداث، من دون حكماً أن يكون الرهان على الخارج، هو الأساس.
وإلّا فإنّ المواجهة ستأخذ كثيراً من المدّ والجزر من دون افق يوصل إلى هدف ناجح، امام حجم المال والسلاح والتخطيط الذي تمتلكه هذه السلطة. وبالتالي، سيبقى اللبنانيون في انتظار إنطلاق «الثورة الفعلية» لأنّ تلك «الثورة»، وامام التركيبة الموجودة في البلد، لن تبدأ إلاّ عندما يحلّ الجوع بالناس، ويبدو أن هذا الأمر لم يحصل بعد.