كتبت هيام القصيفي في “الاخبار”:
استفادت القوى السياسية في الأسابيع الأخيرة من انخفاض وتيرة التحركات الشعبية الحقيقية لتعويم نفسها، كما استفادت بعض هذه القوى في استغلال بعض الشوارع الاحتجاجية لتوجيه رسائل سياسية يميناً وشمالاً. تحتاج هذه القوى في كل أسبوع الى مزيد من الشحن السياسي من أجل ضخ دماء جديدة في آلية وجودها في الحكم وعدم التراجع أمام أي ضغط شعبي. فما هي خريطة الطريق لديها بعدما استعادت الحركة الشعبية بعضاً من زخمها الأول.
تعاملت رئاسة الجمهورية مع استقالة حكومة الرئيس سعد الحريري على أنها محطة عابرة في سياق سياسي عادي، وتعاملت أيضاً مع طرح أسماء المرشحين للتكليف على أساس اختيار أسماء استفزازية أو تلك التي لا تتمتع بتمثيل سني قوي. خالف العهد العرف المستحدث بعد توافق القوى المسيحية على اختيار الأقوى تمثيلاً في بيئته، لاختيار رئيس الحكومة. لكنه في الوقت نفسه أسهم في حرق كل الأسماء التي تم اختيارها، كما فعل الحريري. من هنا، فإن رسوّ الاختيار على الدكتور حسان دياب لم يكن صنيعة الحريري وحده بسبب تلاعبه المتمادي بالمفاوضات، بل إنه صنيعة العهد والتيار معاً، بافتراض أنهما قادران على تطويعه، ووضع التشكيلة المناسبة التي تناسب خياراتهما من دون احتساب أن الآتي بتكليف منهما سيقف في وجههما. لكن «فلتة الشوط» فجّرت مشكلة في وجه متعهدي حكومته، والمشكلة لا تتعلق بمسار اعتمده وحده، بل بأداء سياسي للتيار الذي اعتبر أنه قادر على إحراج حزب الله المنشغل بهموم إقليمية تصاعدية، وعلى استخدام لغة مزدوجة أمام حلفائه والرأي العام والرئيس المكلف. كذلك الأمر بنظرة العهد الى الحالة السياسية العامة في وقت نقل بعض الموثوقين من زوار رئيس الجمهورية عنه أن الوضع جيد وأن تأليف الحكومة قريباً سيساهم في انفراج الأوضاع، بلا أي اعتبار للأزمة الاقتصادية والمالية المتفاقمة والتدابير المجحفة التي تتخذها المصارف ضد المودعين من دون حق.
في محصلة أسابيع التكليف، أن اقتراحات عدة وضعت للبحث بعدما وصلت الأمور بين العهد والتيار ودياب الى حائط مسدود، ترافقت مع عودة الكلام عن حكومة سياسية تَوافَق العهد والرئيس نبيه بري، كل لغاية مختلفة، على تعويم فكرتها. طرحت فكرة سحب تكليف دياب، باعتبار أن التكليف تمّ ببيان وليس بمرسوم، وهذا الأمر نفسه الذي كان قد طرح إبان تكليف الحريري بتأليف الحكومة الثانية. دياب نفسه وضع قفاز التحدي أمام من يريد سحب التكليف، لأنه حتى اللحظات الأخيرة ظل يردد أنه لن يعتذر مطلقاً. لا يفترض أن ينسى أحد أن دياب، النازل بالمظلة على نادي رؤساء الحكومات، ليس وحيداً في حلقة فيها مرشحون للرئاسة وفيها طامحون للقيام بأدوار مستقبلية نيابية ورئاسية، وهؤلاء محنّكون في اختيار أدوات المواجهة التي أصبحت متعددة، منها حكومة اختصاصيين تحاكي مطالب المتظاهرين في وجه من يحاول تعويم الحكومة السياسية، ومنها استرضاء الشارع السني بالحفاظ على صلاحيات رئاسة الحكومة. في المقابل، أعدّ استشاريّو عون القانونيون اجتهادات قانونية ودستورية كي يسحب التكليف، وهي ليست المرة الأولى التي توضع فيها على الورق لترجمتها عملياً. لكن أي خطوة من هذا النوع رفضها الشارع السني حين كان الحريري هو المستهدف، فهل تقبل بها الزعامات السنية ودار الفتوى، حين يصبح الاحتمال كبيراً، لجهة عودة الحريري، وعزل دياب غير المغطّى سنياً، أو أن هذه السابقة تتحول عرفاً، فتتكرر مع أي رئيس جمهورية وأي رئيس حكومة؟
المعضلة الأكثر حساسية تكمن في أن السيناريو المفترض لا يتحدث عن مرحلة ما بعد عزل دياب أو اعتذاره، لأن العهد لا يزال مصراً على عدم عودة الحريري، من دون أي اعتبار لثلاث ثوابت، أن الإطار السني لأي شخصية غير الحريري أظهر أنه غير صالح إلا للمماحكات كما حصل ويحصل حتى الآن في اختيار شخصيات لزيارة بعبدا ورمي اسمها في سوق الترشيحات. والثابتة الثانية هي أن الشارع لا يزال بالمرصاد، مهما اختلفت درجة تحركاته وتغيرت، والثابتة الثالثة وضع حزب الله المحلي والإقليمي.
بين كل هذه الألغام، طُرحت فكرة إحياء الحكومة السياسية، الهادفة أولاً وآخراً الى إعادة القوى السياسية نفسها الى الواجهة بأشكال جديدة. لم يبلع أحد من الأقطاب السياسيين فكرة إبعادهم عن المسرح السياسي، لا بري قبِل بأن يبتعد وزير المال علي حسن خليل، ولا الوزير جبران باسيل ارتضى أن يكون خارج نادي الوزراء، أو حتى أن يتولى غيره وزارة الخارجية بكل أبعادها الرئاسية المستقبلية، كما الحريري بطبيعة الحال. وهنا يكمن التحدي الجديد، لأن أي حكومة سياسية تعيد الشخصيات والقوى نفسها وتضاعف تحدّيها للمتظاهرين يعني أن هناك قراراً بالاصطدام مع الناس من دون أي اعتبار للمطالب والاحتجاجات.
كان بري، بحسب من التقاه، واضحاً في تحديد خياراته الحكومية، لأنه لم يخرج من فكرة استهداف الشارع له ولا الخضوع لتركيبة لا تتلاءم مع مساره الطويل في كونه عراب أي تسوية حكومية. فكرة حكومة الاختصاصيين لم ترُقْه، كما لم يرُقْه ابتعاد الحريري عن السرايا الحكومية. في المحصلة، أوقع بري كما باسيل حزب الله في دائرة خطرة داخلياً لأن الحزب اليوم منصرف الى ترتيب أوضاع تتعلق بما يحصل إقليمياً. من هنا، أمسك الحليفان الحزب في توقيت حساس من اليد التي توجعه. كل من منظار مختلف، سحبا حزب الله من ملف الحكومة الشائك، لأن مصالح الطرفين، رغم خلافاتهما المزمنة، تتقاطع حول فكرة إهمال مطالب المتظاهرين وتشكيل حكومة سياسية وإبعاد كل الطامحين الثانويين الى أدوار سياسية رئيسية. لذا، يصبح تعويم حكومة الحريري أهون الشرّين. هي الطريقة الأمثل لتضييع الوقت وتطيير دياب. لكن ذلك دونه عقبات بدأت في الشارع ولا تنتهي بالعيون الدولية والإقليمية التي لا تزال تصرّ على حكومة اختصاصيين في رسائل وصلت أخيراً الى جميع المعنيين، ما أعاد بعضاً من التوازنات الى المحادثات الحكومية، وجمّد المغامرات، في انتظار كلمة السر النهائية، لتغليب أيٍّ من المنطقين.