على قاعدة “إن عُدتم عُدنا”… إنتفض الشارع بطوله وعرضه أمس معلناً سقوط الآجال والمهل التي منحها الشعب للسلطة، بعدما ثبت بالتواطؤ المشهود أنّ الطبقة الحاكمة تمعن في رهانها على استنزاف الوقت ووأد الثورة، لتعود بوقاحتها المعهودة إلى العزف على وتر الحصص الحكومية المعلّبة، فكانت الرسالة الميدانية المدوية في “ثلثاء الغضب” بمثابة إنذار أخير باغت أهل الحكم وأعادهم إلى مربع أزمتهم الأولى، حيث وجدوا أنفسهم أمام ثورة بلا حدود عابرة للطوائف والمناطق، أعادت بسط سطوتها الشعبية على امتداد الوطن من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، لتقول بصوت واحد إلى كل من يصمّ آذانه من المسؤولين عن مطالب الناس: ولّى زمن “الزعبرة” وانتهت صلاحية “أرانبكم” وكل عدّة النصب والاحتيال التي لم تعد تنطلي على الشعب.
وإذا كان يوم الغضب الساطع قد توالت فعالياته على امتداد ساعات وساحات النهار والمساء بأعلى مستويات ضبط النفس، فلم يشهد “ضربة كف” واحدة في ظل مشهدية حضارية حرص الثوار على تجنيبها أي خرق ميداني يعكّر صفو احتجاجاتهم، غير أنّ بعض الملثمين وغير الملثمين من فرق الشغب التي لطالما كان مشغلوها يوكلون إلى عناصرها مهمات انغماسية في صفوف الثوار، للتهجم على قوى الأمن وارتكاب أعمال التكسير والحرق بالممتلكات العامة والخاصة، سرعان ما خلطوا ليلاً حابل الشعب بنابل الشغب عبر إقدامهم تحت شعارات وهتافات تحاكي الولاء للثنائية الشيعية، على التعدي على المحال التجارية والمصارف في شارع الحمرا فارضين إيقاعاً تخريبياً على المشهد الثوري، أسفر عن أضرار كبيرة طاولت أرزاق الناس وممتلكاتهم ودفعت القوى الأمنية إلى فضّ التحركات الشعبية بالقوة، بعد عمليات كرّ وفرّ بين المشاغبين ووحدات مكافحة الشغب دامت حتى منتصف الليل.
وتحت ضغط الشارع الثائر، أعادت قوى الإئتلاف الحكومي حساباتها وتنظيم صفوفها بشكل انعكس انضباطاً مصلحياً ممنهجاً خلف تشكيلة الرئيس المكلف حسان دياب، تمهيداً لإخراجها من عنق الزجاجة وإخضاع تركيبتها وحصصها إلى عملية “إعادة تدوير” تتماشى مع ضرورات المرحلة. وبينما بدت بصمات “حزب الله” واضحة في إعادة وصل ما انقطع بين رفاق الصف الواحد في قوى 8 آذار، برزت زيارة رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل المفاجئة إلى “عين التينة” لطيّ صفحة الخلاف الحكومي مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، وصولاً إلى نجاح اللقاء في تفكيك صاعق تفجير حكومة دياب والعودة إلى الالتقاء على كلمة سواء تعبّد الطريق أمام ولادة وشيكة للحكومة العتيدة. وهذا ما بدا جلياً من خلال مسارعة باسيل إلى إعادة تدوير زوايا خطابه الحادة إثر اجتماع تكتل “لبنان القوي”، ليتراجع عن قراره “النوعي” الذي كان يلوّح به منذ نهاية الأٍسبوع الفائت، ويفتح كوة واسعة في جدار التصلب في المواقف قد ينفد منها دياب سالماً غانماً نحو جلسة الثقة البرلمانية، بعد أن يكون مرّ بمعمودية بعبدا لتوقيع مراسيم التأليف.
وإذ سارعت مصادر قوى الثامن من آذار مساءً إلى تعميم أجواء متفائلة بـ48 ساعة حاسمة ستشهد في نهايتها ولادة تشكيلة الأكثرية النيابية، بررت مصادر تكتل “لبنان القوي” انقلاب المشهد الحكومي من سوداوي إلى إيجابي بالحاجة إلى منح دياب “فرصة جديدة”، وقالت لـ”نداء الوطن”: “الرئيس المكلف أبدى إيجابية معيّنة ووعد بتبديل أسلوب تعاطيه مع الكتل، لا سيما وأنه كان في السابق يحاول من تلقاء نفسه طرح أسماء للتوزير من حصة التيار الوطني والتكتل، أما اليوم فهو تعهد بأن يعود إلى قيادة التيار والتكتل للوقوف على رأيها إزاء الأسماء التي سيطرحها للتوزير، وعليه قررنا منحه فرصة لأيام قليلة بانتظار ما سيقدّمه من تشكيلة ضمن معيار واضح وسيتم التعامل معه على أساس تشكيلته لمنحها الثقة من عدمها”.
أما على المقلب الآخر، فلربما أيضاً شكلت عودة رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري أمس إلى بيروت، بزخم رافض لأي تسويات تعيد تعويم الحكومة المستقيلة، عامل دفع إضافياً في قرار قوى 8 آذار إعادة تفعيل عملية تشكيل حكومتها برئاسة دياب، سيما وأنّ الحريري شدّد في أول دردشة مع الصحافيين فور عودته على أنّ “أساس الحل هو تشكيل حكومة جديدة وليس تعويم حكومة استقالت بطلب من الشارع (…)، هناك رئيس مكلف لديه مهمة تشكيل حكومة مع من أسموه، فليشكل الحكومة مع فخامة الرئيس ونقطة على السطر”. وكذلك، صوبت كتلة “المستقبل” النيابية التي انعقدت برئاسة الحريري على مسؤولية كل من الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية ميشال عون في تأخير عملية التأليف، مؤكدةً أنّ “التخبط القائم حول ولادة الحكومة، يضع المسؤولية كاملة على عاتق رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، المعنيين دستورياً بالاتفاق على التشكيلة وإصدار المراسيم، وهي مسؤولية يجب أن تتحرر من ضغوط السياسة والأحزاب، وأن تقرأ في المقابل الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والنقدية التي تتفاقم”.