متحررًا من كل قيود الاتفاقات السياسية المبرمة قبل 17 تشرين الأول 2019، يبدو رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، العائد إلى بيروت، بنبض سياسي مطبوع بإرادة المواجهة بعد تسويات دفع التيار الأزرق بسببها أثمانا سياسية وانتخابية باهظة تشهد عليها صناديق الاقتراع في استحقاق أيار 2018، وحكومة “إلى العمل” أسقطتها الثورة الشعبية، دافعة الحريري إلى الاستقالة وقذف كرة النار السياسية في وجه الحلفاء والخصوم على السواء، ولكن أيضا العهد وفريقه والتيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل.
وإذا كانت ردة الفعل البرتقالية العنيفة إزاء استقالة الحريري قد أعطت إشارة واضحة إلى أن التيار العوني طوى صفحة التسوية الرئاسية المبرمة مع الحريري إلى غير رجعة، فإن مصادر سياسية مطلعة تلفت عبر “المركزية” إلى أن “الصورة لدى الرئيس الحريري نفسه ما عادت مختلفة كثيرا، بدليل السهام المباشرة التي أطلقها أخيرا في اتجاه باسيل والفريق الرئاسي”، حيث أعلن في دردشة مع الصحافيين قبيل عيد الميلاد أن “الحكومة المقبلة ستكون حكومة جبران باسيل”. وقد بلغت به الأمور أمس حد اتهام العونيين مباشرة بتعطيل خطط حكومته، لا سيما في ملف الكهرباء، الذي تدل كل المؤشرات المتجمعة في الأفق الحكومي إلى أنه باق في يد التيار “الوطني الحر”.
وفي محاولة لتفسير هذا التبدل الجذري في نبرة الحريري تجاه الشريك الباسيلي، تلفت المصادر إلى “أن الاهتزازات الكثيرة التي تعرض لها اتفاق الشراكة بين الطرفين كانت تدل إلى أنه آيل إلى السقوط عاجلا أم آجلا، علما أن الضغط الشعبي سرّع وتيرة هذا الانهيار”، مشيرة إلى أن الحريري بات اليوم يلعب “صولد”، بعدما خسر معركة العودة إلى السراي مفتقرا إلى غطاء مسيحي حرمه إياه الشريك السابق جبران باسيل والحليف التاريخي سمير جعجع.
أمام هذه الصورة، وفي وقت تستعد البلاد لطي صفحة حكومة الحريري لتنطلق أخرى يكتبها الرئيس المكلف حسان دياب بحبر مطالب الحراك الشعبي، تنقل أوساط بيت الوسط لـ”المركزية” عن الحريري قوله إن ضميره مرتاح وقد عمل كثيرا محليا وخارجيا لإبقاء التسوية الرئاسية قائمة، لكنها اليوم ما عادت قابلة للحياة، بعد ضربات قاسية من الحلفاء والخصوم على السواء. لكن الأوساط عينها تؤكد أن الأهم يكمن في أن الحريري حدد أولويته في المرحلة المقبلة، بعيدًا من محاولات جره إلى المواجهة مع الفريق الرئاسي: الاهتمام بالشأنين المالي والاقتصادي. ولا تجد الأوساط أبلغ إلى ذلك دليلا من اللقاء الذي جمعه أمس بحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، معطوفًا على الموقف العالي السقف من الحملة على هذا الأخير، حيث أكد الحريري أن “سلامة يتمتع بحصانة ولا أحد يستطيع إقالته”. ولا يخفى على أحد أن بين سطور هذا الموقف سهما في اتجاه معارضي سلامة، الذي تلقت بعض سياساته انتقادات من الفريق الدائر في فلك الوزير باسيل”.
على أي حال، فإن معلومات ترددت عن أن الحريري يستعد للاستفادة من المرحلة الراهنة، التي من المفترض أن يكون خلالها خارج السراي ليعزز تموضعه العربي، في وقت يتوقع كثيرون أن يدخل مبتكر المخارج، رئيس مجلس النواب نبيه بري على خط تحسين العلاقة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والحريري، نظرًا إلى حاجة لبنان إلى علاقات الأخير الخارجية.