كتب خالد ابو شقرا في “نداء الوطن”:
لم يكن الإعتداء على المصارف مستغرباً. فالهجمات التي اتخذت مؤخراً منحىً ليلياً ما هي برأي متابعين للأزمة المصرفية إلا استمرار لعملية الترهيب الممنهجة التي بدأت في العام 2016 مع بدء المصارف التشدّد في تطبيق العقوبات الأميركية على “حزب الله”.
منذ الأيام الأولى لانطلاقة ثورة 17 تشرين بدأت تظهر مجموعات من داخل الحراك المدني “تُشيطن” المصارف، والآراء الحرة المعارضة. فجرى الإعتداء على ملتقى التأثير المدني، وأزيلت خيمة the hub التي كانت تناقش قضايا وطنية، ومن بعدها جرى التفرّغ ليلاً لتكسير المصارف.
الإعتداء على فروع المصارف، كان الأداة التنفيذية لفكرة “يسقط حكم المصرف”. فسُجّلت 289 حالة إعتداء على فروع المصارف، معظمها في بيروت، وكانت حصيلتها تكسير الواجهات، تحطيم ماكينات السحب الآلي ATM، والعبث ببعض المحتويات. لكن السؤال، الذي يطرحه متابعون، هل عادت الأموال إلى المودعين؟ وهل خففت المصارف إجراءاتها المقيّدة للرساميل ورفعت هامش التحاويل إلى الخارج، وهل استيقظنا صباحاً على زوال “طوابير” المودعين والمتعاملين من أمامها؟”.
تتفق آراء الخبراء على ان الحلّ لا يكون بالتخريب، إنما في لجوء المتضررين إلى الإدعاء أمام القضاء على المصارف التي تقيّد الرساميل من دون وجه حق، وهذا ما بدأ يتحقق فعلاً بحق كل من “البحر المتوسط” و”بيبلوس” و”سوسيته جنرال”… هذه الطريقة ليست حضارية فحسب، إنما فعالة أكثر ومن الممكن ان تُثني المصارف عن التمادي في الإجراءات غير المقوننة. كما أن المصارف لا تتحمّل وحدها وزر ما وصلت إليه الأمور بل كل السلطة الفاسدة وتوابعها.
لا تراجع في ظل الأزمة
مقابل الهجمات الكثير من المصارف اتُّخذت إجراءات متشددة أكثر منذ بداية الأسبوع الحالي، وخفضت بمعظمها سقف السحب بالعملة الاجنبية إلى 200 دولار، والظاهر ان “هذه السياسة ستستمر مهما بلغت درجة الإعتراض، ولن تثني كل محاولات الترهيب المصارف عن القيام بما تراه مناسباً لتخطي الأزمة حفاظاً على أموال المودعين وحماية الدولة وموظفيها وصوناً لقطاع يشكّل العمود الفقري بالنسبة إلى الإقتصاد اللبناني”، يقول أحد المصرفيين الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه.
رئيس نقابة موظفي المصارف أسد خوري، يعتبر أن “بعض الإعتداءات على المصارف بريء ولا خلفيات له سوى غضب المودعين المحق تجاه الإجراءات المتشددة. في المقابل، هناك مقاربات غير بريئة تخدم “أجندة” معيّنة وذات أبعاد إيديولوجية وسياسية”. وبحسب خوري ينقسم المتعرّضون للمصارف إلى ثلاث فئات:
الأولى، هم المتعاملون المقهورون، والذين عادة ما نلاحظ ان ردة فعلهم تكون موضوعية، حتى لو أخذت في كثير من الأحيان منحى عنفياً. إلا انها تحلّ في ضوء النهار.
الثانية، مجموعات لا تهدف الى ضرب القطاع المصرفي فحسب بل الى تسويق “بروباغندا” لضرب الإقتصاد الحرّ لصالح النظام الموجه.
الثالثة، أصحاب أجندة واضحة “حاقدة على أميركا” غايتها الإنتقام من القطاع المصرفي والتضييق عليه بسبب تطبيقه مرغماً العقوبات الأميركية على “حزب الله” ومن يدور في فلكه.
ويلفت خوري إلى ان ما لا يعرفه الكثيرون ان “اللعبة خرجت من إطارها المصرفي، فالبنوك والمودعون والمعترضون وحتى المعتدون لا يملكون مفاتيح الحل والربط. بل كل الامور رهن بالإستقرار السياسي وعودة الثقة بلبنان”.
أرقام صادمة
في الوقت الذي تظهر فيه معاناة صغار المودعين من تراجع قدرتهم على التصرف بأموالهم واستعمال إيداعاتهم بالعملة الصعبة، تشير إحصاءات المصارف إلى ان المبالغ المسحوبة يومياً بالدولار تتراوح بين 15 و18 مليون دولار في الوقت الذي لم يكن يتجاوز فيه هذا الرقم الـ 15 مليوناً أسبوعياً في الفترات الماضية.
وإن كان من دلالات لهذه الأرقام فهي توفير المصارف أكثر من حاجة السوق من الدولار. وما يسبب الأزمة فعلياً هو سحوبات من لا يحتاجون الأموال من أمام من يحتاجها فعلياً.
صحيح ان التفريق بين من هو مضطر لسحب أمواله ومن يسحبها لخوفه الشديد لانعدام ثقته بالمصارف يعتبر عملية مستحيلة، إلا ان هذا لا ينفي واقعة زيادة المواطنين بأنفسهم حدّة الأزمة ودفعهم المصارف الى التشدّد أكثر.
هذا الكلام لا يُبرّئ البنوك، إنما التشديد يجب ان يكون اليوم ليس على ندب الماضي والوقوف على أطلال السياسات النقدية بقدر المساعدة على إيجاد الحلول. ويرى الخبير الإقتصادي د. لويس حبيقة أن “تشكيل حكومة تعطي الثقة للداخل والخارج يّعتبر المدخل الجدّي للحلّ، والذي تنتفي معه الحاجة إلى تغيير أو تعديل في القوانين”. فبرأي حبيقة “تتمثّل المشكلة الأساسية اليوم في عدم قدرة المصارف على تلبية السحوبات بالدولار نتيجة زيادة الطلب من جهة، وتراجع الودائع من جهة ثانية. إلا انه في حال عودة الثقة واستقرار الامور فمن المتوقع ان تعاود الاموال الدخول الى النظام المصرفي اللبناني وكسر مشكلة شح الدولار”.
الإنعكاسات
بالإضافة الى التشويه المتعمّد لصورة لبنان فإن ضرب المصارف بحجة الثورة يُعتبر برأي العديد من الثوار تشويهاً متعمّداً لمسار الثورة وحرفاً عن وجهتها الحقيقية التي قامت منذ اليوم الأول على شعار “كلّن يعني كلّن”. صحيح ان السياسات النقدية كانت خاطئة إنما من قال ان السياسات المالية أو السياسات الإقتصادية التي تتعلق بالصناعة والزراعة كانت صحيحة؟
وبالعودة إلى الإقتصاد، شئنا أم أبينا فان ثروة لبنان موجودة في المصارف، والمسؤولية تقضي علينا تصويب عملها لحماية مدخرات ورساميل المواطنين، وليس المساهمة بضياعها. كما تُعتبر المصارف لغاية اللحظة ورغم كل الإعتراضات صمّام أمان الدولة ومصدر حماية لـ 350 ألف موظف في القطاع العام. هذا ولا يزال نظام السرية المصرفية يشكّل أملاً في عودة الودائع الهاربة، وفي هذه المرحلة يجب ان تبدأ المعركة الحقيقية على جبهة تحويل وجهة هذه الاموال لدعم الانتاج والإستثمار بدلاً من توجيهها إلى قطاع عام فاسد بمعظمه، ومنتفخ.
التمادي في الإعتداء على المصارف لا يعرّض أكثر من 25 الف عامل لخطر فقدان الوظائف فقط إنما سيدفع ثمنه الإقتصاد والمواطن في المستقبل إذ انه من الصعب أن تعاود الدورة الانتاجية والاستثمارية نهوضها من دون وجود قطاع مصرفي قوي وقادر.
في الامثال الشعبية المتوارثة يقال “الثلم الأعوج من الثور الكبير” وبالتالي فإن حياد “ثور” الدولة عن مساره الصحيح أدى إلى اعوجاجات في كل البنية الإقتصادية والإجتماعية.. ومن هنا يجب ان يبدأ الإصلاح.