كتبت رلى إبراهيم في صحيفة “الأخبار”:
أمام مبنى بلدية بيروت في وسط العاصمة، انتفاضة شعبية ضد الفساد لاستعادة الأموال المنهوبة. وداخل أروقة المبنى، صفقات لاستغلال هذا الوجع وشراء ذمم الناخبين بحصص غذائية، من دون مناقصة وبطريقة مخالفة للقانون
أعلنت بلدية بيروت، أول من أمس، رغبتها «الاستحصال على عروض أسعار لتقديم مواد غذائية بغية توزيعها على الراغبين من أبناء المدينة». ودعت الشركات والمؤسسات للاطلاع على الشروط بدءاً من يوم غد. تتحدث البلدية عن توزيع حصص غذائية على «أبناء بيروت»، حاصرة الاستفادة منها بمن ينتخبون في بيروت، علماً أن عدداً كبيراً من هؤلاء لا يقيمون في العاصمة ولا يدفعون رسوماً فيها.
إذاً، في خضمّ الانتفاضة الشعبية على الفساد والزبائنية التي تجري على أبواب مبنى البلدية في وسط بيروت، لا تزال البلدية ورئيسها متمسكيْن بالسياسة نفسها: استغلال وجع الناس عبر شراء الأصوات بـ… حصص غذائية. قد يبدو هذا المشروع ساذجاً أمام الصفقات بالمليارات التي يهدرها هذا المجلس والمجالس التي سبقته على مشاريع أخرى ولصالح مقاولين محدّدين. لكنّه نموذج واضح عن طريقة العمل المستقاة من تيار المستقبل، وعن استباحة المال العام تحت عناوين شتى… علماً أن رئيس مجلس بلدية بيروت جمال عيتاني، فور نشره هذا الإعلان على صفحته على «فايسبوك»، جوبه بانتقادات وتعليقات سلبية حول هذه الخطوة التي وصفها البعض بـ«الشحادة» عوض تنفيذ مشروع إنمائي واحد مفيد للعاصمة. وقد أثار مصطلح «الراغبين من أبناء المدينة» سخط البيروتيين، ما يثير الشكّ في نية البلدية من هذا المشروع. وسريعاً، اضطر «الريّس» إلى مسح الإعلان عن صفحته.
في القرار الذي اتخذه مجلس البلدية، جرى تحديد عدد الحصص الغذائية بعشرين ألف حصة، وتم تعيين لجنة مَهمتها «القيام باستقصاء أسعار أو استدراج عروض وفقاً لما يسمح به القانون». هنا، أيضاً، للمجلس نظرته الخاصة عن القانون، إذ أن ما يجري اليوم ليس استدراج عروض ولا عرض أسعار بموجب فاتورة بل «سَلَطَة مكوّنة من هذا وذاك» على حدّ وصف أحد أعضاء المجلس. فاستدراج العروض يتم عبر دفتر شروط واضح في حين أن عرض الأسعار بموجب فاتورة يتم فقط في الحالات التي لا تزيد كلفة المشروع على عشرين مليون ليرة. لذلك ارتأى المجلس الجمع بين الأمرين بغية تمرير صفقة الحصص الغذائية بما يقارب نصف المليون دولار! ولدى سؤال البعض عن هذه المخالفة القانونية، يحيلون سائلهم إلى ديوان المحاسبة الذي له أن يوافق أو يرفض القرار الذي سيصدر عن المجلس بتكليف الشركة صاحبة العرض الأدنى. لكن هل حُدّدت المواد الغذائية وأعدادها وأصنافها؟ وهل عيّنت اللجنة مسؤولين لمتابعة هذه التفاصيل مع الشركات والتأكد من مطابقتها للشروط؟ ومن سيقوم بتوزيع «كراتين الإعاشة» وأين؟ حتى الساعة لا جواب من اللجنة التي تؤكد أنها في صدد إنجاز كل هذه النقاط، علماً أن السؤال نفسه وجّهناه إليها منذ أسبوعين وجاء الرد بأن كل التفاصيل ستكون متوفّرة بعد ثلاثة أيام. اللامبالاة في عقد صفقة قانونية ببنود واضحة وشفّافة توحي وكأنّ هناك نية لدى المجلس لصرف الأموال عشوائياً، ولا سيّما أن الهدف الأساسي الذي «اخترع» هذا المشروع لأجله، أي مساعدة الفقراء والمحتاجين، سقط. فبحسب مصادر بلدية، تستفيد من هذه الحصص كل عائلة ناخبة في بيروت على أن تتقدم بإخراج قيد عائلي مع عنوان السكن ورقم الهاتف واسم الشخص الذي سيتسلّم الحصة الغذائية، بغضّ النظر عما إذا كانت العائلة محتاجة أم لا، الأمر الذي سيفتح الباب على التنفيعات والمحسوبيات. المعيار الوحيد هنا هو سجلّ النفوس، من دون أن يجيب أصحاب هذا المشروع عما سيفعلونه في حال فاقت الأسماء المسجّلة الكمية المحددة بعشرين ألفاً؟ وكيف سيُحدد الأَوْلى بالاستفادة؟ هل سيتم التعامل مع المتقدمين بالطلبات طائفياً أم وفق الواسطة والمحسوبيات طالما أن معيار «فقر الحال» غير موجود؟.
ما يجري ليس باستدراج عروض ولا عرض أسعار بل «سَلَطَة مكوّنة من هذا وذاك»
علماً أن «التنفيعة» الانتخابية ستُصرف من أموال دافعي الضرائب الساكنين في بيروت، ولكن يُمنع عليهم الاستفادة منها. وعليه ما الذي يمنع القاطن في العاصمة من الامتناع عن دفع الرسوم المفروضة عليه بما أن البلدية المُنشأة لخدمته قررت خدمة ناخبها حصراً؟ وفي هذا السياق، وصلت رسائل عبر الواتسآب، في الأيام القليلة الماضية، إلى البيارتة من سكان عرمون وبشامون ودوحة الحص تدعوهم إلى تسجيل أسمائهم.
عندما أُعدّ قرار المجلس البلدي لتوزيع الحصص الغذائية، عُقدت الجلسة في غياب 11 عضواً. يبرّر بعض هؤلاء عدم حضورهم باعتراضهم على جدول أعمال الجلسة وعدم لحظ مشاريع طالبوا بها، فيما يقول البعض الآخر إنه يقاطع الجلسات لأن «المشاريع المطروحة تتضمن فساداً ضمنياً ولا نريد أن نكون شهود زور». لكن، فعلياً، مسؤولية هؤلاء عما يحصل لا تقل عمن يصوّت إيجاباً. فناخبو بيروت اقترعوا لأعضاء بغية إيصال صوتهم وسلّموهم قرارهم في المجلس البلدي وائتمنوهم على أصواتهم لمراقبة الأعمال التي تجري داخله ومصارحتهم بصفقات الفساد التي تحصل والوقوف في وجهها. أما ما يحصل اليوم فلا يعدو كونه تخلياً من هؤلاء عن المسؤولية والاستنسابية في التصويت على المشاريع في إطار حرب النكايات بين الأحزاب السياسية وفعّاليات بيروت.