Site icon IMLebanon

سوق البالة في طرابلس

كتبت ساندي الحايك في “نداء الوطن”:

 

فور الحديث عن “البالة” تتبادر إلى الأذهان صورة الأسواق الشعبية العشوائية المكتظة التي يتآكلها الإهمال وتنتشر في محيطها الأوساخ وأحزمة البؤس. ترسخت تلك الصورة النمطية عنها لدى كثيرين، لدرجة باتت فكرة زيارتها كالمغامرة غير مضمونة النتائج! لكن حقيقة الأمر مغايرة تماماً، لا سيما في بالات طرابلس، حيث يُحافظ أصحاب المحال فيها على حدّ مقبول من النظافة في الشوارع، ويستقبلون رواد المكان إلى أي فئة انتموا بالابتسام والترحاب.

تقع أسواق البالة في طرابلس من جسر أبي علي شمالاً باتجاه منطقتي التبانة والقبة، وصولاً إلى الأسواق الداخلية في طرابلس حيث يتفرّع منها السوق العريض في المدينة القديمة. تضم مئات المحال التجارية المتراصة خاصرة إلى خاصرة، التي تعرض بضاعتها في مستوعبات حديدية أو كرتونية، وعلى رفوف خشبية أو ترفعها لتُعلقها من السقف فتتدلى متهدلةً كأنها هياكل عظمية رُفعت على حبل المشنقة. تتشابه المحال هنا، وكأنها امتداد لبعضها البعض. تجول السوق كله على خط مستقيم واحد وتكاد لا تنتبه أنك انتقلت من محل إلى آخر إلا بعد ملاحظتك تبدل الوجوه التي تُخاطبها. البساطة هي السمة الغالبة على كلّ شيء. فلا واجهات زجاجية هنا، ولا أسماء أجنبية تُخط على يافطات بأشكال وألوان فولكلورية لتُرفع فوق المحال، ولا أدوات تدفئة تُشعر الزبون بالرفاهية. ولا يوجد حتى أسعار أو “إيتيكيت” على البضائع المعروضة.

العلم اليقين هو عند صاحب المحل الذي يحفظ عن ظهر قلب نوع البضائع وأسعارها، التي غالباً ما تبقى قابلة للأخذ والرد والتخفيض التدريجي بحسب سير “المفاصلة”، وعلى عكس أسواق طرابلس الداخلية التي اشتهرت بالتخصص، تنتفي هذه الصفة عن أسواق البالة، إذ يعرض صاحب المحل الواحد كل ما لديه دفعة واحدة، من الثياب والأحذية النسائية والرجالية والولادية، إلى “كوستوم” الثلج وصولاً إلى الأغراض المنزلية وألعاب الأطفال والدُمى والسجاد. تُرمى البضائع هنا فوق بعضها البعض، نظراً لكثرتها من دون أن يتكبد البائعون عناء ترتيبها أو توضيبها لإغراء الزائرين. بسهولة يُمكن تبيان خيطان الغبار التي غطت أجزاء منها، فحال أسواق البالات لا يختلف عن الأسواق الأخرى في المدينة. العجلة الاقتصادية شبه المتوقفة أرخت بثقلها على أسواق الفقراء أيضاً، وها هي البضائع تنتظر من يلتفت إليها ويقلبها يميناً ويساراً.

وتعود ظاهرة انتشار البالات في لبنان الى ما قبل حرب العام 1975، وكان الـ”بيارتة” يقصدون بسطات البالة في الوسط التجاري، قرب العازارية، وتتباهى سيدات بيروت في ما بينهن بما طالته إيديهن من معاطف وفساتين بأسعار متهاودة. لكن في بعض المناطق كطرابلس انتشرت هذه الظاهرة منذ العام 1950. وتقوم البالات على سلسلة تجارية، تبدأ بمراكز بيع السلع المستعملة المنتجة في الدول الأوروبية، ألمانيا على وجه الخصوص، وتمر بمستوردي هذه السلع، لتصل إلى التجار في الأسواق ومنهم إلى المستهلك.

إذ يعمل المستورد على بيع السلع الى أصحاب البالات حسب الأوزان والنوعية. ويشرح أبو فؤاد النشار، صاحب أحد أشهر المحال في البالة أن “قصة هذه الأسواق بدأت قديماً مع الجمعيات الخيرية التي كانت تضع مستوعبات على الطرق والأرصفة المحاذية للأماكن السكنية في المدن والعواصم الأوروبية، وتدعو الناس إلى التبرع عوضاً عن رمي الملابس والحاجيات التي لا يريدونها، أو يفضلون الاستغناء عنها، في حاويات النفايات. وفي نهاية كل شهر يتم جمع ما رماه الناس من سلع وتوضيبه وتوزيع بعضه على الفقراء والمحتاجين في تلك البلدان، وتصدير ما تبقى إلى بلدان أخرى، منها لبنان عبر تجار لبنانيين يعيشون هناك”.

ويضيف: “الكثير من الأوروبيين يرمون ألبسة جديدة غير مستعملة إطلاقاً، بينما يرمي آخرون أحذية يبدو جلياً أنهم استخدموها لفترة وجيزة”، مشيراً إلى أنه “غالباً ما تكون نوعية هذه البضائع جيدة جداً، إذ إنها صُنع ماركات عالمية، ولكن عموماً إن البضائع المستعملة التي يتم استيرادها تُقسّم إلى ثلاثة أصناف: الباب الأول والباب الثاني والباب الثالث”. والباب الأول يُمثّل البضائع المتميزة بنوعيتها وقصاتها والتي تكون غالباً غير مستعملة، ولا سيما معاطف الفرو والكاشمير والسجاد الأصلي التي تُباع بأسعار تصل إلى 500 ألف ليرة للقطعة الواحدة. أما الباب الثاني، فيشمل بضائع بنوعية جيدة ولكنها مستعملة، وقد تمت إعادة تنظيفها وتوضيبها. أما الباب الثالث، وهي غالباً البضائع التي يشتري منها الفقراء والمعوزون، وتُمثل الملابس المستعملة سلفاً.

بالة الفقرا… روادها أثرياء أيضاً!

من نافل القول أن البالة أسواق تشبه المجتمع الذي يحتضنها، بفقره وغناه، بتبعيته وتحرره، بغوغائيته و”ركازته”، لكنها لا تُشبه اسمها. يحكي أبو فؤاد أن “البالة ليست بالة على الإطلاق، فمن لديه خبرة في البحث بين المحال الكثيرة هنا، ومعرفة دقيقة بأنواع الجلد والفرو والماركات العالمية يتمكن من شراء “لقطات” قد لا يمرّ في خياله أصلاً أنه سيكون باستطاعته أن يرتدي مثلها يوماً”، مردفاً: “هالشغلة بدها شطارة”. ويعود أصل تسمية “البالة” إلى كلمة “بالية”، إذ اعتبرت هذه البضائع قديماً بالية نظراً لعدم حاجة أصحابها إليها. في حينه، لم يكن المظهر والزينة الشغل الشاغل للمجتمعات العربية، والمجتمع اللبناني على وجه الخصوص.

فليس خافياً على أحد أن اللبناني مستعد أن “يتديّن ليتزيّن”، لذلك تُشكّل البالة محطة أساسية للكثير من اللاهثين خلف ارتداء الماركات الفخمة والتباهي بها. وعليه، يُقسّم المعلم حسن حلبي، صاحب أحد محال الألبسة الجلدية في البالة، رواد السوق إلى قسمين: الأول هم الفقراء المعدمون، الذين لا تمكنهم قدراتهم المادية من ارتياد أسواق أخرى. فيبحثون عن أي قطعة تستر أجساد أطفالهم الطرية وتقيهم لسعات البرد والصقيع شتاءً، وتحميهم من التصبب عرقاً صيفاً. يشترون ما ينفعهم غير آبهين بأصله وماركته وما إذا كان قد استُخدم سابقاً أم لا. أما النوع الثاني، فهو نقيض النوع الأول، هم الميسورون الذين يبحثون عن التباهي بقطع الأقمشة التي يضعونها فوق أجسادهم. قلّة منهم تتجرأ على الدخول إلى البالة من دون إجراء تعديلات “تنكرية” تخفي حقيقة انتمائهم إلى الطبقة الميسورة. يأتون بثياب عادية، أغلبهم يضع النظارات ويغطون رؤوسهم أو وجوههم بخمار. يعرفون الماركات حق المعرفة.

لا يشترون إلا “أجدد” البضائع المتماشية مع آخر صيحات الموضة. يركنون سياراتهم الفخمة بعيداً. يحاولون عدم النظر في أعين الحاضرين أو المارة، خشية من أن يتعرف إليهم أحد. يشترون القطع المميزة التي تحمل “إيتيكيت” الماركات العالمية بأسعار زهيدة. فعلى سبيل المثال، تُباع أحذية “التيمبرلاند” الأصلية في البالة بـ50 ألف ليرة، في حين يتباهى بها هؤلاء أمام أصحابهم وأقاربهم بأن ثمنها يفوق الـ 300 دولار، لأنها أصلية بالفعل وغير مقلّدة. بينما يحكي المعلم حسن مسترسلاً يُقاطعه أحد الفتيان العاملين معه بالقول: “خبرها للصحافية عن المدام يلي سيارتها فوميه”. يضحك المعلم ويقول: “فعلاً هذه السيدة غريبة الأطوار، تتصل بي شهرياً لتسألني عن البضاعة الجديدة، وفور وصول البضائع أُبلغها بذلك، فتأتي إلى السوق ولكنها لا تترجل من السيارة بل تُصر على أن ننقل لها البضائع الجديدة إلى داخل سيارتها لتختار من بينها”، مضيفاً: “أعتقد أنها تخاف من أن يراها أحد هنا”.

وبحسب الحلبي: “أغلب الميسورين الذين يرتادون محالنا يتوزعون بين زوجات ضباط وأطباء ورجال أعمال، وحتى ممن يتعاطون الشأن العام والمرشحين السابقين إلى الانتخابات النيابية”. ويكشف أن “بعض هؤلاء يتركون أرقام هواتفهم معنا ويطلبون منا إبلاغهم فور استلامنا “شلّة” جديدة من الألبسة، بحيث يتسنى لهم اختيار الأفضل من بينها”، موضحاً أن “شراء ثياب البالة لا يكون بالقطعة وإنما “على الشيلة”، أي بالوزن. فنحمل نحن ما باستطاعتنا دفع ثمنه من الأكياس المحملة بالبضائع التي نستلمها من مرفأ بيروت. وعند وصولنا إلى طرابلس نفتحها ونعيد ترتيبها على الرفوف”. ويقول: “كل ما تريده الناس موجود في البالة لذلك فإن الإقبال كثيف. وبالرغم من أننا نفتح محالنا طيلة أيام الأسبوع إلاّ أنّ الحركة لا تزدهر إلا في نهاية الأسبوع”، مشيراً إلى أن “الفقر الذي يطال الناس شهراً بعد شهر يطالنا أيضاً، إذ إن كثيرين منا لم يجددوا البضائع في محالهم منذ ما قبل موسم الأعياد خوفاً من كسادها”.

لماذا تنتشر صور السياسيين على جدران البالة؟

يكاد لا يخلو جدار حول سوق البالة من صور السياسيين في المدينة. رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي له حصة الأسد. لا يتوانى أصحاب المحال عن لعن السياسيين والمسؤولين الذين دمروا المدينة، وألزموها على دفع الثمن الباهظ لخلافاتهم على مرّ السنين، لكن عند سؤالهم عن سبب وجود الصور يصمتون. يأتي جواب المعلم حسن عبثياً “الصور قديمة من إيام الانتخابات مش من هلق”. نستغل الفرصة لسؤاله عن احتمال إعادة انتخاب الطبقة السياسية نفسها في حال الاتجاه نحو إجراء انتخابات نيابية مبكرة، فيقول: “لكون صادق معكي، ما بعرف. يعني بدنا نشوف مين بدو يترشح كمان”. تلك الصور جرّدتها الشمس والأمطار من ألوانها. باتت باهتة تُشبه إلى حدٍ كبير واقع هذا البلد وفقراء هذه المدينة الذين باتوا يجاهدون للعيش باللحم الحيّ…

يلي ما عنده حظ لا يتعب ولا يشقى!

سرد المعلم حسن الكثير من القصص عن حظوظ بعض الزبائن في البالة، بعضها قد يصعب تصديقه! يقول: “في إحدى المرات اشترى أحد الشباب من عندي جاكيت شتوي “غير شكل! بيقبر البرد”. تجادلنا كثيراً حول ثمنه. كان يريد أن يدفع 50 ألف ليرة وكنت مصراً على أن يدفع 70 ألفاً. بعد جدل طويل اتفقنا على أن يدفع 60 ألفاً فقط. وما هي إلا ساعات حتى عاود الاتصال بي. تفاجأت وقلت في نفسي إنه من دون شكّ يريد أن يجادلني مجدداً بالسعر. ترددت بالإجابة أول الأمر لكنني فعلتها أخيراً، فأتاني صوته ليُخبرني أنه عثر على 300$ أميركي في جيب الجاكيت!”. قصة أخرى تعود لسيدة اشترت جزمة جلدية سوداء. جلد أوروبي أصلي لا يوجد لها مثيل في كل محلات لبنان. يُخبر المعلم حسن: “كنت معتاداً على أن تزورني كل شهر تقريباً، إلا أنها فعلت بعد أسبوع من آخر زيارة. بعد السلام قلت لها: “شرّفتينا بس ما إلك بالعادة”، فأجابتني: “جئت لأخبرك أمراً ساراً، لو كنت أملك رقم هاتفك لما كنت قصدتك. ولكن كل ما في الأمر أنني وجدت 5 ليرات ذهب في كعب الجزمة الجلدية التي اشتريتها”.

الثياب المستعملة تُضر بالبيئة!

في العام 2018 تقدّم وزير الاقتصاد السابق رائد خوري، الحسّاس والغيّور على صحة المواطنين باقتراح إلى مجلس الوزراء بتاريخ 16 أيار يطلب فيه منع استيراد الألبسة المستعملة كلّياً لأن هذه الألبسة، إضافةً إلى ضررها الصحي والبيئي، تُغرق الأسواق اللبنانية بالبضائع، مقترحاً استبدال البالات باستيراد ثياب صينيّة جديدة ورخيصة، كون الثياب المستعملة تحمل بكتيريا وميكروبات نتيجة التخزين الطويل وتعرّضها للشمس والمطر في محال وأسواق مكشوفة لفترات طويلة، ما يضرّ بالصّحة والبيئة. غير أن بعض المحللين أعربوا أن “خلف هذا القرار نيّة لحصر الاستيراد ببعض التجار والمتمولين الكبار”. ولكن بمعزل عن التحليلات، لم يتم البتّ بهذا القرار، إلا أنه يفضح استنسابية هذه السلطة التي لا ترى في الكسارات والمرامل والمطامر العشوائية ومداخن المعامل ضرراً صحياً، إنما يتركز الأخير في لقمة عيش الفقراء حصراً. كما إن هذا النوع من القرارات دليل على قلّة دراية الطبقة الحاكمة بأحوال رعاياها، ففي ظل ازدياد الضغوط الاقتصادية وتفاقم الأزمات المعيشية لا مكان لفقراء لبنان لستر أجسادهم واتقاء شرّ العوز واحتمالاته البشعة سوى بارتياد “جنة أطفالهم”: أسواق البالة.