كتبت غادة حلاوي في “نداء الوطن”:
“الأسئلة النارية” التي وصفت على أنها أحرجت وزير الخارجية السابق جبران باسيل في دافوس قد لا تشكل محطة يتوقف عندها رئيس “التيار الوطني الحر”، الذي تمرّس في السياسة حتى صار عصياً على الانتقاد. حتى “الهيلا هيلا هو..” لم يتردد في استثمارها لمصلحته في الحراك، ولم تبدّل من عناده السياسي.
11 عاماً في السلطة التنفيذية شغل خلالها منصب وزير الاتصالات، ومنها انتقل إلى وزارة الطاقة والمياه وصولاً إلى الخارجية. في العام 2008 عُيّن جبران باسيل وزيراً للمرة الأولى، وفي مطلع العام 2020 صار وزيراً سابقاً. خطوة قد تكفي لتشفّي خصومه منه والبناء عليها، خصوصاً وأن رئيس “التيار الوطني الحر” لم يكن وضعه داخل “التيار” مغايراً لوضعه في السياسة حيث الخصوم متواجدون أيضاً، ومن بينهم من يتحضر للحراك في سبيل كسر احتكاره للرئاسة، على اعتبار أن سياسة باسيل أوصلت العهد كما “التيار الوطني” إلى مكان تصعب العودة منه.
شهدت مسيرة باسيل السياسية صعوداً ونزولاً، أصاب وخاب في قراراته التي كانت خاطئة أحياناً ومصيبة أحياناً أخرى. مدلّل السياسة اللبنانية ونقطة المحور فيها صار محط أنظار الداخل والخارج لكن بقدر ما أكسبه حضوره صداقات، كانت له عداوات أيضاً. من صفوف “التيار الوطني الحر” تدرّج باسيل حتى صار رئيساً لـ”التيار”، والصهر الذي قد يرجئ تشكيل الحكومة أشهراً لمراضاته، وتدوّر الزوايا في السياسة لكسب رضاه. الوحيد الذي لا يحدّ من عناده إلا جلسة تجمعه مع الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله قد تستمر لساعات، للتهدئة من روعه في السياسة.
ثلاث سنوات من الشراكة مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري انتهت برأي من يحيط به إلى محاولات شيطنة جبران باسيل وتحميله المسؤولية بكاملها. تصويب في السياسة كان مصيباً أحياناً لكنه في محطات معينة كان تضخيماً لدور الرجل، وتحميله مسؤولية عن مرحلة لم يكن موجوداً فيها من بدايتها.
منذ حادثة قبرشمون وما تلاها تعرض وزير الخارجية السابق إلى محاولات عزل وهجوم شرسة داخلياً وخارجياً، حتى شكلت زيارة ديفيد هيل متنفساً له إزاء الحصار الذي كان يمارس عليه أميركياً، ورغم التصويب والتهديف عليه من الحراك استطاع بعون “حزب الله” أن يتجاوز قطوعه ولو بصعوبة، ويلعب دوراً لم يختلف كثيراً عن دوره في السابق.
في الحديث عن حسابات الربح والخسارة ثمة من يعتبر أن باسيل تعرّض لندوب ولكنه لم يخسر بالمطلق. يعتبر باسيل نفسه أنه يقطع خلال الفترة الحالية في صحراء. مقارنة مع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قد لا تعد خسارات باسيل جوهرية، هو مني بخسارة ولكن من رصيد ربحه، لكنه بقي في المعادلة وكان أساسياً في تشكيل الحكومة الحالية، وقف في مواجهته الحراك والحريري والأميركيون. قال كلمته الشهيرة للحريري وأصر عليها: “إما أنا وأنت جوّا أو أنا وأنت برّا” فخرج باسيل وأخرج الحريري معه، غير أنّ خروج الأول لم يكن كاملاً بينما صار الثاني خارج السلطة بالكامل.
في تجربة تشكيل الحكومة الأخيرة انهال عليه الحلفاء بسيل من الانتقادات وهاجموه في السر والعلن، حتى وصف على أنه “جشع” في السياسة ولا يرضى بأقل من الحصة كاملة، ويرفض التقاسم مع الآخرين حتى ولو كانوا حلفاء. المأخذ الاساسي عليه خوضه معركة الرئاسة في كل كبيرة وصغيرة ولو قبل أوان الاستحقاق بسنوات.
رغم كل السلبيات التي يأخذها عليه خصومه في السياسة غير أنّ وضع باسيل ليس سيئاً أو لنقل ليس بالسوء الذي كان متوقعاً له. ومن وجهة نظر المقربين فإن “التيار” برئاسة باسيل حقق الأهداف التالية من خلال الحكومة الجديدة:
فرصة جديدة لإنقاذ البلد، ولكنها غير كافية إلا باكتمال وتنفيذ برنامج إصلاح مالي ونقدي واقتصادي وإلّا لا نجاح. تشكيل حكومة اختصاصيين بمعظمها ومن دون سياسيين، والتزم “التيار” بكامل المعايير التي وضعت لناحية الوزراء الثمانية الجديرين (منهم 4 نساء) دعمهم التيار ليكونوا في المكان المناسب، ولناحية شكل الحكومة الإجمالي.
ومن وجهة نظر “التيار” أيضاً، حافظ باسيل على المعايير الميثاقية والمذهبية والبرلمانية لناحية عدد الوزراء والحقائب، وهو ما ناضل له منذ 2005 ولم يتخلَّ عنه وثبّت مكتسبات وتوازنات الحكومة السابقة، بالرغم من كل محاولات التطويق والتصريحات الإعلامية.
وبخلاف المتعارف عليه يؤكد “التيار” أن باسيل لم يعترض على تمثيل “المردة” بإثنين ولا “السوري القومي” بواحد شرط أن تكون الحكومة عشرينية، حافظ على حق طائفتي الكاثوليك والدروز لا بل عزز الدروز للمرة الأولى بثلاث حقائب ووزارة دولة، ولكن “المهمّ أن تنجح الحكومة في تغيير الأنماط القائمة واتخاذ قرارات جريئة وسريعة، وبناءً عليه يتمّ الحكم عليها”.
في مرحلته الجديدة يبدي باسيل انفتاحاً وتجاوباً أكثر مع حلفائه، بعد زيارته رئيس مجلس النواب نبيه بري وخلال اجتماع تكتله النيابي، أبلغ النواب أنّ “الهجوم على الرئيس بري مرحلة مضت ونظر إلى النائب زياد أسود ليقول له: أنت أكثر المعنيين بهذا الكلام”.
يوم أعلن نيته عدم المشاركة في الحكومة بشخصه كان باسيل “أخضع القرار لدراسة معمقة، انتهى منها يقول إنه بات في ضوء الانتكاسة التي تعرض لها من خلال الحراك، بحاجة إلى إعادة “ركلجة” أمور تياره ووضعه على المستوى الشعبي والسياسي، وأن المرحلة المقبلة قد تسيء إليه سياسياً أكثر مما تساعده، ومن مصلحته أن يكون خارجها”.
مسيرة 11 عاماً في الحكومة خرج منها باسيل بعداوات في السياسة تزيد على الصداقات، ولكن لا يهمّ طالما هو مسنود على حليف قوي كـ”حزب الله”… فهل يبقى “الصهر” ذنبه مغفور وهل يستمر واقعه على حاله بعد انتهاء العهد؟