Site icon IMLebanon

جلسة تشريع السوابق

كتب ايلي الفرزلي في “الاخبار”:

جلسة «تاريخية» عقدها مجلس النواب، أقرّ فيها موازنة 2020 في ظروف استثنائية شعبياً ودستورياً. تحت الحصار الشعبي، أقرّ النواب موازنة في جلسة مليئة بالسوابق: رئيس حكومة لم تنل الثقة جلس مكتوف اليدين لثلاث ساعات، يراقب، وحيداً، كيف تُقرّ موازنة سيكون ملزماً بتطبيقها، وسيُحاسب على أساسها. هو الذي لم يسهم في كتابة حرف فيها، فيما تنصّل منها رئيس الحكومة التي أقرّتها

«تهريباً» دخل النواب إلى ساحة النجمة. لا أحد منهم يستطيع مواجهة المنتفضين الذين أحاطوا بمداخل الساحة، على قدر ما سمحت لهم الإجراءات الاستثنائية التي نفّذها الجيش وقوى الأمن، والتي تحوّل وسط بيروت، بنتيجتها، إلى منطقة عسكرية.

قالها الرئيس نبيه بري كما هي: «عملنا السبعة وذمتها لنوصل اليوم»، متوجّهاً بالشكر إلى الجيش والقوى الأمنية. هؤلاء قاموا بواجباتهم وزيادة، فأفرطوا في اللجوء إلى العنف، الذي كانت نتيجته أكثر من 20 جريحاً.

كان الهاجس صباحاً تأمين النصاب. وقد تأخرت الجلسة نحو 40 دقيقة، بانتظار الـ65 نائباً. كتلة المستقبل حضرت متأخرة، وكان سبقها نواب اللقاء الديموقراطي. هؤلاء مثّلوا المعارضة الجديدة، بعد مقاطعة «القوات» و«الكتائب» للجلسة.

مقاعد الوزراء ظلت فارغة. وحده رئيس الحكومة حسان دياب حضر، فجرّب المقعد المخصّص لرئاسة الحكومة للمرة الأولى. بعيداً عن الكلمة التي تلاها في بداية الجلسة، لم يكن له أي دور. جلس شاهداً، يدوّن ملاحظاته بين الفينة والأخرى. كان دوره تأمين الغطاء الحكومي للموازنة، وقد قام بدوره بلا صخب. ملامحه لم تتغير إن توجه له أحدهم باقتراح أو بسؤال أو انتقاد أو ملاحظة. «بوكر فايس» بقي طيلة مدة الجلسة.

هذا الدور، بحسب ما رسمه رئيس المجلس، تطلب أن يتحدث دياب في بداية الجلسة مبرراً مناقشة الموازنة في هذا الظرف، فقال: «لا شيء عادياً في لبنان اليوم. كل شيء استثنائي وتعقيدات الظروف الاقتصادية والمالية والنقدية تُملي علينا التصرّف من منطق الضرورة والعجلة، وأيضاً الاستثناء. ولأن الواقع استثنائي، فإن الحكومة في ظل وضعها الراهن، أي قبل نيلها الثقة، وبحسب الرأي الدستوري الراجح، هي حكومة تصريف أعمال بالمعنى الضيق، ويُفترض أن يكون عملها محصوراً بإعداد البيان الوزاري، وبالتالي لا يمكنها أن تمثل مجتمعة أمام المجلس النيابي الكريم في جلسة مناقشة الموازنة العامة، كما أنه لا يحق لها استرداد الموازنة».

ختام الكلمة كان: «إن الحكومة لن تعرقل موازنة أعدّتها الحكومة السابقة وناقشتها لجنة المال والموازنة النيابية، واكتملت إجراءاتها. انطلاقاً من ذلك، فإن الحكومة تترك الأمر إلى المجلس النيابي الكريم، مع احتفاظها بحق تقديم مشاريع قوانين لتعديلات في الموازنة، بعد نيل الثقة».

بالنسبة إلى دياب كان ذلك كافياً للإشارة إلى تبنّي حكومته مشروع الموازنة. فحكومة لم تنل الثقة لن تكون قادرة على تبنّي المشروع بالشكل القانوني، أي لن يكون بإمكانها استرداده ثم توقيعه من قبل رئيس الحكومة والوزراء الجدد. لذلك، كان الإخراج عبر الكلمة التي ألقاها دياب، وبدا فيها أقرب إلى «شاهد» اعترف بأنه لا يحق للحكومة أن تمثل أمام المجلس، لكنه مثل أمامه منفرداً.

ما فعلته الجلسة أنها زادت الشرخ بين القوى السياسية الحاكمة والواقع الشعبي المنبثق عن انتفاضة 17 تشرين. وهي أكملت لعب دورها هذا في مناقشة الموازنة، التي أصرّ بري على إنهائها أمس خوفاً من احتمال عدم قدرة النواب على العودة إلى المجلس.

دستورية الجلسة كانت محل نقاش، وقد فتحه النائب سمير الجسر. قال إن الجلسة غير دستورية، لأنها تنعقد من دون إصدار مرسوم فتح دورة استثنائية بعد انتهاء الدورة العادية نهاية العام. لم تُفتح جلسة استثنائية لأن رئيس الحكومة لا يمكنه توقيع أي مرسوم قبل نيل الثقة (باستثناء مرسوم تأليف الحكومة)، فركّز بري على كون حق التشريع مطلقاً للمجلس النيابي ولا يتوقف ذلك على الصلاحيات التي تتمتع بها الحكومة. عاد إلى ما قبل العام 1992، وقال إن العرف الطوائفي الذي سار عليه المجلس، لا يلغي حقه في التشريع.

نقاش دستوري، حسمه رئيس المجلس بقوله للجسر «لنتكل على الله والتفاسير تكون لمصلحة الناس وليس ضد الناس. بمجرد أن تصبح حكومة تصريف أعمال، المجلس في حال انعقاد». أضاف: «أنت نقيبنا وأنا أحترمك، ولكن هذا رأيي». ولأن رأي بري هو الراجح، ولأن الكتل المعترضة لم تشأ فرط النصاب، ولأن الجيش نزل بثقله لتأمين وصول النواب، انعقدت أمس جلسة لا مثيل لها، لمناقشة مشروع قانون قدّمته حكومة لم تعد موجودة، في ظل حكومة يمثل رئيسها وحيداً أمام المجلس النيابي، بالرغم من أنه لم ينل الثقة. علة الجلسة وغايتها «الحرص على الانتظام المالي»، من خلال إقرار الموازنة قبل انتهاء شهر كانون الثاني. لكن هذا الحرص لم ينعكس على قطع الحساب، الذي لم يقر ولم يقدّم، ولم يتطرق إليه أحد إلا عرضاً، بالرغم من أنه، بدوره، أساس الانتظام المالي والدستوري.

كل شيء جرى أمس على قاعدة الضرورات تبيح المحظورات. لكن وحده «المستقبل» لم يعرف ما يريد. يعطي الشرعية لجلسة إقرار الموازنة، إلى جانب «الاشتراكي»، لكنه يعتبرها غير دستورية، ولا يوافق على موازنة أسهم في إعدادها! باستثناء الجسر الذي انسحب من الجلسة لعدم دستوريتها، كان الشغل الشاغل لكتلة المستقبل إبعاد مسؤولية الانهيار عن كاهل سعد الحريري. أصرّ كل نوابه على أن يعلن دياب تبنّيه للموازنة بشكل صريح. ظنوا أنهم بذلك يرفعون مسؤولية الحريري عن الانهيار. وفاتهم أن الانتفاضة إنما تحمّل المسؤولية لكل الطبقة الحاكمة، وعلى رأسها الحريري، الذي أسقطت حكومته.

حتى مع تجاوز كل الإشكالات الدستورية، فإن سؤالاً بديهياً طُرح في الجلسة: إلى من نتوجه في أسئلتنا، ومن يبتّ الملاحظات المتعلقة بمشروع الموازنة؟ فأجاب بري: إبراهيم كنعان موجود. وهو ما حصل بالفعل، خلافاً لمبدأ الفصل بين السلطات، إذ تولى نائبان مهمة الدفاع عن مشروع الحكومة، هما كنعان والوزير السابق علي حسن خليل.

سبعة نواب فقط تحدثوا في الأوراق الواردة قبل بدء التصويت على بنود الموازنة، بعد أن تلا كنعان تقرير لجنة المال بشأن الموازنة. نجح بري في حصر العدد. وبالرغم من تخفيض لجنة المال للإنفاق بشكل ملحوظ، وكذلك خفض تقدير الواردات، بالنظر إلى الوضع الراهن، إلا أن نواباً كثراً اعتبروا أن التعديلات ليست كافية للتعامل مع الواقع الذي استجد منذ 17 تشرين. كتلة المستقبل التي صوتت ضد الموازنة التي أقرّتها حكومة الحريري، فعلت ذلك بذريعة «اقتناعها بأن الارقام الواردة فيها لم تعد تعكس الواقع، لأن الاقتصاد اختلف حجماً ونوعاً عمّا كان عليه عندما أقرّت الحكومة السابقة مشروع الموازنة». موقفها هذا يتناقض مع موقف أعضائها الذين شاركوا في لجنة المال وأيّدوا التعديلات التي أجريت عليها «لأن الاقتصاد اختلف»، والتي أدت إلى خفض الموازنة 800 مليار ليرة، وخفض الغرامات. ومن المواد التي أضيفت على وقع الأوضاع المستجدة: رفع ضمان الودائع من 5 ملايين ليرة إلى 75 مليون ليرة، وتعليق الاجراءات القانونية المتعلقة بالمهل الناشئة عن التعثر في سداد القروض المدعومة. وإذا كانت المادة السابقة قد أقرّت بلا نقاش، فإن مسألة الإجراءات المتعلقة بالقروض أخذت حيزاً كبيراً من النقاش، من مطالبة أغلب النواب بأن يشمل التعليق كل القروض المدعومة وغير المدعومة. لكن لأن هذا النقاش سبق أن أجري في لجنة المال، وشهد اعتراضاً كبيراً من جمعية المصارف، تمّ صرف النظر عنه في الوقت الراهن، كما أوضح النائب علي فياض، إلى حين البحث في إجراءات شاملة تتعلق بالأمور العالقة بين المصارف والمقترضين، وبينها على سبيل المثال خفض الفوائد على القروض. كذلك، ألغيت المادة 34 من المشروع المُرسل من الحكومة، والمتعلقة بتقسيط تعويضات نهاية الخدمة للعسكريين، إذ اعتبر كنعان أنها لزوم ما لا يلزم، فيما أكد الوليد سكرية عدم جدواها.

بالنتيجة، أسفرت الجلسة «التاريخية» عن إقرار الموازنة بموافقة 49 نائباً يمثلون «لبنان القوي»، «الوفاء للمقاومة»، «التنمية والتحرير» و«القومي»، إضافة إلى النائبين نقولا نحاس وعدنان طرابلسي. وفيما أعلنت النائبة بهية الحريري امتناع كتلة «المستقبل» عن التصويت، تضاربت مواقف أعضاء الكتلة، بين ممتنع ومعترض، فيما أصرّ الاشتراكي على الامتناع، لتكون نتيجة التصويت موافقة 49 نائباً ومعارضة 13 نائباً وامتناع 8 نواب.