كتبت راجانا حمية في “الاخبار”:
في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي تقاضى أحد المستخدمين تعويض نهاية خدمته… مرتين. قبلها، خرجت فضائح أخرى حول بيانات يسهل اختراقها وأخرى ممحوّة. كل تلك الفضائح أصلها واحد: نظام المكننة المهترئ. وهو نظام يتحكّم رجل واحد من خارج المؤسسة بكل مفاصله، ويسيطر على جميع البرامج ويحصر «مفاتيحها» بيده، فيما لا ينفك مجلس إدارة الضمان عن التمديد له في موقعه، مخالفاً قرارات قضائية والقرارات الداخلية للمؤسسة والقوانين المرعية الإجراء
آخر الأسبوع الماضي، عقد مجلس إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي جلسة استثنائية للبتّ في «تجديد العقد بدوام كامل للمحلل المتعاقد مع الصندوق سعيد القعقور». البند لم يكن وحيداً على جدول الأعمال، لكنه الأكثر «استثنائية»، بعدما تسبّب في تفجّر العلاقة بين أعضاء مجلس الإدارة في الصندوق سابقاً، إذ أن العقد غير قانوني وغير شرعي بسبب مخالفته للقانون ولقرار النيابة العامة لديوان المحاسبة. مع ذلك، عُقدت الجلسة بدعوة من المدير العام للصندوق محمد كركي، وبحضور 17 عضواً. مرّت الدقائق الأولى بهدوء، إلى أن حلّ البند المتعلّق بملفّ القعقور. فلم يكد البند «يحضر» حتى دخل صاحب العلاقة ليحضر الجلسة، «ما أثار استياء عدد من الأعضاء الذين كانوا في صدد تقديم مطالعة في شأن الوضع القانوني للعقد»، معتبرين أن دخوله الجلسة، بشكلٍ يخالف القانون، يُقصد منه «إحراج هؤلاء والضغط عليهم لتمرير العقد»، على ما يقول أحد الأعضاء. مع اعتراض اثنين من أعضاء المجلس (مندوب عن العمال وآخر عن أصحاب العمل) وخروجهما من القاعة، خرج القعقور من الجلسة بطلبٍ «من أحدهم» لتأمين عودة المعترضين. لكن، لم يكد المجتمعون يباشرون بدراسة الملف، حتى أطلّ صاحب العلاقة مجدداً، ليخرج العضوان المعترضان نهائياً، وليستقرّ عدد الحاضرين على 15 عضواً. كان المطلوب، ليصبح بند التجديد نافذاً، أن ينال أكثرية الأصوات، والمحدّدة قانوناً بـ«14 عضواً». وهي مغامرة لم تكن محسوبة في ظل وجود معترضين آخرين داخل القاعة. بدأ التصويت، وانتهى بموافقة 13 عضواً واعتراض اثنين، ما اعتبر معه القرار ساقطاً. لكن، «عمل البعض على الضغط على العضوين المعترضين، وتمكنوا في النهاية من تحصيل موافقة مشروطة من أحدهما».
مع ذلك، لم يمرّ القرار. صحيح أنه نال الأكثرية، إلا أنه لم يأت وفق الصيغة القانونية التي تنص على أن التمديد يصبح ناجزاً من الجلسة الأولى إذا ما نال 6 من أصل 10 مندوبين عن العمل والنسبة نفسها عن أصحاب العمل و4 من أصل 6 مندوبين عن الدولة. وهو ما لم يحصل، إذ لم ينل سوى «صوت مندوبين عن الدولة»، وأصبح لزاماً – حسب القانون – إجراء جلسة أخرى للتصويت في غضون 15 يوماً، على أن ينال العقد 14 صوتاً ليصبح نافذاً.
إذاً، ثمة جولة جديدة من التصويت. لكن، هل يمكن ضمان الأصوات نفسها، علماً أن بعضها جاء مشروطاً؟ وسبب هذه الشروط هو سيرة القعقور الوظيفية التي تفتقد الى الشرعية، سنداً إلى قرارين: أولهما قرار النيابة العامة لديوان المحاسبة التي اعتبرت التمديد غير شرعي لـ«عدم انطباق الوضع الوظيفي للسيد القعقور على القوانين والأنظمة النافذة»، وثانيهما القرار رقم 370 الصادر عن مجلس إدارة الصندوق عام 2007، والذي يفرض على «من يتولى وظيفة محلل حصوله على إجازة جامعية من جامعة معترف بها رسمياً في الهندسة الإلكترونية أو الكهربائية أو الميكانيكية أو الرياضيات أو الإحصاء أو الفيزياء (…) ومدة الدراسة فيها 3 سنوات على الأقل مسبوقة ببكالوريا لبنانية أو ما يعادلها»، وهو ما لا يتوافر لدى القعقور.
من 1990 حتى 2017
بدأت قصة القعقور (فئة ثالثة) عام 1990 مع قرار الصندوق التعاقد معه للقيام بـ«الأعمال التي ينوي الصندوق مكننتها ووضع الدراسات والبرامج الفنية اللازمة لأعمال المكننة». وهو كان من بين 5 آخرين تم التعاقد معهم من خارج المؤسسة بصفة محللين وخبراء. ومن جملة مَهامهم تطوير البرامج وتصحيح ما يمكن أن يطرأ على نظام المكننة المعمول به في حال حدوث مشاكل. مع الوقت، توقف التعاقد مع بعضهم لعدم تجديد العقد أو لبلوغهم السن القانونية. فيما بقي القعقور المحلل الوحيد في الصندوق، وكبرت صلاحياته، وكلّف ببرامج على جانب كبير من الأهمية، تشمل تقريباً كل البرامج في المركز الرئيسي، من «المحاسبة والمحاسبة الإدارية إلى شؤون المستخدمين وبراءات الذمة وصولاً الى نهاية الخدمة وتقسيط الاشتراكات». وهي من «أخطر البرامج في الصندوق»، بحسب أحد أعضاء مجلس الإدارة. شيئاً فشيئاً، صار القعقور «سوبرمان الضمان»، وبات غيابه عن المؤسسة يعني تعطيل العمل فيها، وخصوصاً أنه «يتحكم وحده بكل برامج الضمان ويرفض إطلاع سواه عليها أو تسليمها إلى غيره من المستخدمين أو توثيقها». ووفق أحد أعضاء مجلس الإدارة، فإن «أي خطأ يحصل في المعاملات على أحد البرامج، لسنا قادرين على تصحيحه (…) ما فينا بلا سعيد القعقور لأنه وحده من يملك باسووردات البرامج، وهو الوحيد القادر على تعديل التصريحات وغيرها». وقد حدث أكثر مرة أن وجد بعض العاملين أن «أرقام المعاملات التي يجريها الضمان (التصفية) قبل أن يرسلها إلى وزارة المال غير مطابقة للأرقام في المالية، علماً أن المعاملات هي نفسها». ورغم إطلاع الإدارة على الأمر، من خلال إرسال كتابٍ يشير إلى «تكرار هذا الخلل في البرامج»، إلا أن أحداً لم يسأل.
بقي القعقور وحيداً «لا شريك له» في نظام المكننة. وهنا تكمن الخطورة في تسليم «مفاتيح» مؤسسة عامة «لشخصٍ واحدٍ يتحكم بها»، ويعرّض معها مصالح جميع المضمونين والمستخدمين للخطر. وهو ما حصل أواخر كانون الأول الماضي عندما أوقف القعقور «برامج المحاسبة الإدارية أمام بعض المستخدمين ومنعهم من الولوج إليها للقيام بأعمالهم اليومية، لأن المديرية توقفت عن صرف مستحقاته بسبب عدم تجديد التعاقد معه». وهو لم «يفكّ» عصيانه إلا ليل الخميس، قبل يومٍ من الجلسة الاستثنائية. أما الأخطر فهو أن المديرية التي أقفل برامجها، هي المسؤولة عن تصفية رواتب المستخدمين وجميع تصفيات النفقات الإدارية والتصريحات الضريبية، الأمر «الذي أدى إلى تأخّر المستخدمين في قبض رواتبهم»، وما كان يمكن أن يحصل «من تغريم للضمان في حال التأخر في إتمام التصريحات الضريبية في موعدها».
يحدث ذلك، رغم أن القرار 370 الصادر عام 2007 عن مجلس إدارة الصندوق يقضي باستحداث وظائف في ملاك المكننة، من بينها وظيفة محلل. غير أن القرار لم يُطبّق، ولم تعمد الإدارة إلى ملء أي من الوظائف الملحوظة بالقرار، وأبقت القعقور المشغّل الوحيد لأنظمة المعلوماتية، وتوسّعت صلاحياته ليتخطّى المهام المنصوص عليها في العقد الأساسي. وبحسب أحد أعضاء مجلس الإدارة، «مُنح القعقور أيضاً إدارة مشروع هبة الاتحاد الأوروبي والبالغة 3,8 ملايين أورو، رغم عدم اختصاصه وخبرته وعدم أحقيته كمتعاقد باستلام مهمة إدارية».
وقد صرف المبلغ «من دون أن تظهر أي نتيجة أو أي تطور في إدارة الصندوق أو مسالك العمل فيه أو شبكة المعلوماتية وكل ذلك من دون إجراء أي محاسبة أو رقابة شفّافة». وهي صلاحيات معطاة له، خلافاً للقانون، كما هي «المستحقات» التي يتقاضاها «خلافاً للقانون»، وخصوصاً في العامين الماضيين، مذْ امتنع مجلس الإدارة عن التمديد للقعقور عام 2017 لعدم شرعية هذا التمديد. لتعود الإدارة في عام 2018، خلافاً للصلاحيات، إلى تمديد عقده «من خلال هيئة المجلس، علماً أنها ليست الجهة الصالحة للنظر في ذلك». وقد صدر إثرها قرار عن النيابة العامة لديوان المحاسبة دعت فيه إدارة الصندوق لـ««اتّخاذ الإجراءات المناسبة التي تؤمّن تسوية الوضع الوظيفي للسيد القعقور».
ومنذ عام 1990، يتولى القعقور نظام المكننة، غير أن البرامج التي يديرها، بحسب العاملين في الصندوق وأعضاء مجلس الإدارة ووثيقة يتداولها هؤلاء، هي«برامج بدائية وغير متطابقة، وتخفي في بعض الأحيان معلومات هائلة وخطيرة ويمكن التلاعب بها من دون أن يتمكن أحد من إدارتها أو التأكد من صحتها أو اكتشاف عمليات تحصل في الضمان، كما حصل أخيراً في قضية ج. ب». وثمّة مثال آخر حول«تغطية هدر أموال الصندوق وتعريضه للكثير من المخاطر نظراً إلى عدم توفر الحماية المطلوبة للمكننة، وآخرها قضية المستخدم س. ز. الذي تقاضى تعويض نهاية الخدمة مرتين».
بعد ثمانية أشهر من تعاقد إدارة الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي مع المحلل المتعاقد سعيد القعقور، صدر التعديل الوحيد على «مَهامه» الذي قضى بزيادة راتبه! ومذّاك، يتقاضى القعقور رواتب ومخصّصات خلافاً للنظام. ويصل اليوم راتبه، مع المخصّصات الإضافية، إلى «ما يفوق مئتي مليون ليرة سنوياً». وبحسب بعض أعضاء مجلس الإدارة، فإن القعقور «يتقاضى أعلى أجر في الصندوق يفوق راتب المدير العام وراتب وزير الوصاية، وهو يتلقى خلافاً للقانون كل منافع نظام المستخدمين، من 5% سنوياً كدرجة دورية وراتب عن 15 شهراً وكل المساعدات الاجتماعية، إضافة إلى استفادته من عدد ساعات إضافية عن عمل خارج الدوام».