كتب خالد أبو شقرا في “نداء الوطن”:
تتعمّق مخاوف المتعاملين مع المصارف اللبنانية يوماً بعد آخر. فاستمرار التأزّم السياسي وعدم وجود نية جدّية لقوننة الإجراءات المصرفية، وغياب المؤشرات الاقتصادية والنقدية المطمئنة، وترْك باب الأزمة مفتوحاً على كل الإحتمالات… عوامل بدأت تُرخي بثقلها على كاهل المودعين الذين لا يوفّرون طريقة لإخراج أموالهم إلا ويفعلونها.
مروان (إسم مستعار لشخصية حقيقية) رجل أعمال يملك شركة إعلانات في إحدى الدول الأجنبية، استطاع خلال سنوات عمله الطويلة ان يدّخر مبلغاً كبيراً من المال. ومثله مثل كل المغتربين، حوّل مروان كل أمواله إلى لبنان للهروب من الضرائب أوّلاً وللإستفادة من الفوائد التي كانت تقدّمها المصارف اللبنانية على إيداعات الدولار ثانياً. لكن مع إنفجار الأزمة النقدية واتخاذها منحى تصاعدياً وفقدانه الأمل في الحصول على مدخراته بالعملة الاميركية، ترك كل أعماله في الخارج وعاد إلى لبنان ليتفرّغ لمحاولة إخراج أمواله من “حبس” المصارف، عبر عمليات شراء مختلفة بشيكات مصرفية.
المهرب في العقار
يُشكّل قطاع العقارات المهرب الاول للأموال “العالقة”. وبمعزل عن تصديق أو نفي الإشاعات التي تقول ان جزءاً من الأزمة النقدية مصطنع ويهدف إلى منع انفجار فقاعة عقارية، خصوصاً مع ارتفاع ديون القطاع الى أكثر من 20 مليار دولار، وتوقّف عمليات البيع بشكل كلّي، فان الأزمة شكلت في أحد أوجهها مثلث منافع للمصارف والمطورين وبنسبة أقلّ للمودعين.
فشراء العقارات عبر حوالات او شيكات يساعد المطوّرين على تسديد ديونهم المتراكمة على المصارف، والتي بدورها تقلل من نسب الديون المعدومة لديها، ولو حسابياً، وتنعكس إيجاباً على ملاءتها المالية وتصنيفها.
وبحسب رئيس جمعية منشئي وتجار الابنية في لبنان أحمد ممتاز فقد “ارتفع الطلب في الفترة الاخيرة على العقارات بنسبة 15 في المئة، بعدما كان متوقفاً كلياً في العامين الماضيين”. وبرأي ممتاز فان “الميل الجدي عند المودعين لشراء أراضٍ وعقارات يقابل بعدم ممانعة المطورين والتجار المديونين للمصارف بالبيع عبر شيكات وحوالات مصرفية، إذ ان هذه العملية تساهم في تخفيف عبء الديون التي عادة ما تكون مقابل رهونات”.
هذا الواقع الذي يشكّل منفعة مرحلية لتجار البناء لا يعني تحقيق مصلحة القطاع والقطاعات الستين التي ترتبط به، على المدى البعيد، حيث يسجِّل تراجعاً ملحوظاً في عمليات البناء وتوقفاً عن اكمال المشاريع. إذ انه بالاضافة الى توقف المصارف عن فتح الاعتمادت وإعطاء التسهيلات، فإن أسعار مواد البناء المستوردة من حديد وأخشاب وأدوات صحية وكهربائية ولوازم الديكور وغيرها تسجّل ارتفاعاً كبيراً فاق لغاية اليوم الـ 40 في المئة. وعليه فانه من المستحيل زيادة هذه الكلفة على أسعار العقارات التي تشهد بدورها تراجعات تجاوزت في كثير من الحالات الـ 30 في المئة.
في السيارات الضمانات أقلّ
قطاع بيع السيارات المستعملة “سجّل زيادة بنسبة 5 المئة في أرقام المبيعات بالمقارنة مع النصف الثاني من العام الماضي حيث توقفت عمليات البيع بشكل كلي”، يقول نقيب أصحاب معارض السيارات إيلي رزق. وبحسب رزق فان السيارات لا تُعتبر الملجأ الآمن لتهريب الودائع، فهي تصاب بالتقادم وينخفض سعرها مع مرور السنوات وذلك على عكس الاراضي والعقارات. إلا ان “ما نلاحظه هو وجود ميل عند بعض المودعين لاستخدام مدّخراتهم بما يفرّحهم قبل ان تذهب سدى او يجري الاقتطاع منها او تجميدها في المصارف الى فترات غير محددة بعد، من الممكن ان تصل الى سنوات طوال”.
تحريك العجلة الإقتصادية نسبي
الواقع الذي فرض نفسه على لبنان نجح في تحريك العجلة الإقتصادية وكسر حلقة الجمود نسبياً في بعض القطاعات، لا سيما الخدماتية منها. إلا ان نتائج هذه العملية ستكون وخيمة على بنية الإقتصاد في المراحل المتقدمة خصوصاً لجهة فقدان المصارف قدرتها على تمويل متطلّبات الأفراد والمشاريع نتيجة الضعف الذي سيصيب القطاع جرّاء استمرار عمليات خروج الاموال منه وعدم دخول ودائع جديدة اليه. وبرأي عضو هيئة مكتب المجلس الإقتصادي والإجتماعي د. أنيس أبو دياب فإن ما يجري اليوم قد تكون نتائجه محمولة على المصارف كون كل عمليات الشراء عبر الشيكات وغيرها تجري بقيود محاسبية داخيلة وعبر تبادل المقاصة بين المصارف وبالتالي ليس هناك من أموال بنكنوت تخرج من القطاع المصرفي”. اما لجهة الخوف من ان تؤدي هذه العملية إلى تضخم القطاع العقاري نتيجة إزدياد الطلب، فيلفت أبو دياب الى انه من المستبعد أن تشهد العقارات مزيداً من الارتفاع في الاسعار. إذ بالرغم من زيادة الطلب نسبياً، والتي تتركز على العقارات المبنية الجاهزة، فهي لا تزال متدنية بالمقارنة مع الطلب الذي كان يشهده القطاع في فترات الإزدهار السابقة”.
نتائج هذه العمليات ستنعكس تلقائياً على المصارف الصغيرة التي ستضطر مع انخفاض حجم ودائعها للدخول في عمليات إندماج مع غيرها. إلا انه بالنسبة الى المصارف الكبيرة فإن ما يحصل يعزّز ملاءتها، ذلك ان النقص في الإيداعات يقابله تراجع بالديون وهذا هو المؤشر الذي يهمها العمل عليه في الوقت الحاضر.