كتب ألان سركيس في صحيفة نداء الوطن:
إنتظر البعض أن تخرج قمة بكركي بموقف حازم من التطورات الأخيرة وأن تضع حداً لمقولة “لم يكن في الإمكان أفضل مما كان”، وتلاقي الثورة الشعبية بمطالبها المحقّة، لكن المفاجأة كانت بدعوة القمة لإفساح المجال أمام الحكومة الجديدة التي تألفت بانقلاب على الثورة، والشباب اللبناني المنتفض إلى القبول بالسيئ خوفاً من الأسوأ، وكأن قدرنا الدائم ألا نحلم بوطن ودولة ومؤسسات.
لم ترُق اللغة التي تحدّث بها بيان بكركي عن الحكومة لمن حلم بوطن جديد، وسط الأسئلة الكبرى التي تطرح عما إذا كانت البطريركية المارونية ما زالت تتأمل خيراً من هذه الطبقة السياسية التي يهاجمها البطريرك مار بشارة بطرس الراعي في عظاته، ويعتبر أنها نهبت البلد وأفقرت الشعب وجوّعته وهدمت بنيان المؤسسات والوطن.
قد تكون مخاوف بكركي مشروعة في الإنجرار نحو العنف والفوضى وهذا الأمر لا يريده الشعب المنتفض الذي يعمل للأحسن وليس لدمار وطنه، لكن الشعب سئم من وضعه في خانة الإختيار بين الخراب وبقاء هذه الطبقة السياسية وكأنه لا يوجد حلّ وسط، في حين يُذكّر هذا الأمر بضرورة اختيار الشعوب العربية بين الإرهاب وبين بقاء الأنظمة العربية الديكتاتوريّة.
ومعلوم أنّ كل الثورات تمرّ في مخاض عسير، ومن تحمّل 30 سنة من الإحتلال والسرقة والفقر يستطيع أن ينتظر قليلاً لكي يبصر الوطن الجديد النور، فالإستسلام السريع والتسليم بالأمر الواقع ليس من شيم البطريركية المارونية التي كانت دائماً من يعطي الأمل للشعب اليائس، في حين ان التجديد لهذه الطبقة السياسية سيؤدّي إلى هلاك البلد.
القمة الثانية
ومن يراقب المشهد، يرى انه في غضون 100 يوم، شهدت بكركي قمتين مسيحيتين بعدما عقدت القمة الأولى في 23 تشرين الأول بعد أيام معدودة على اندلاع الثورة، وأتت قمة الأمس لمتابعة الأوضاع التي تمرّ بها البلاد.
وترى أطراف مسيحية عدّة أن القمة المسيحية الروحية، وبمجرّد انعقادها، هي نقطة إيجابية لأن البلاد بأمس الحاجة لجمع المكونات وحتى لو كانت من الطائفة نفسها، لكن الأساس والأمر العملي يبقى في جمع القوى السياسية المسيحية. وفي السياق، يلفت البعض إلى أن القمم تكون عادةً في اللحظات الصعبة، وليس هناك من لحظة أصعب من التي تمرّ على لبنان حالياً، لكن المطلوب تحريك القوى التي تعمل على الأرض وتمسك زمام الأمور وخصوصاً المسيحية منها.
ومن يراجع تاريخ البطريركية المارونية، يعلم جيداً أنها كانت الباحثة دوماً عن حلول وطنية شاملة وتُلقّب بـ”أم الصبي”، وكان لها في كل مرحلة تاريخية وقفة عزّ، وكان آخرها أيام البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير الذي قاوم الإحتلال السوري وشكّل “لقاء قرنة شهوان” كجناح سياسي للبطريركية.
مطالبة بقمة سياسية
ويبدو أن بكركي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى باقتراح حلول والمساهمة بوضع خطة إنقاذية وليس فقط الإكتفاء بالتعليق على الأحداث وانتقاد الشواذ والدعوة إلى التعامل مع حكومة أمر واقع فرضتها السلطة على الناس، ويبدو من “تقليعتها” أنها غير قادرة على معالجة أزمة من هذا النوع، في حين أن الواقعية والوطنية كانتا تفرضان تأليف حكومة إنقاذية تباشر عملية الإصلاح، لا أن تعيد السلطة إنتاج ذاتها بحكومة إنقلابيّة تنال مباركة أكبر مرجعية مسيحية في لبنان والشرق.
من هنا يطالب البعض بأن يكون كلام بكركي موجّهاً بطريقة مباشرة إلى المسؤولين وتسمية الأشياء بأسمائها، من ثمّ الدعوة إلى قمة مسيحية سياسية تضم رؤساء الأحزاب والتيارات السياسية، إضافة إلى كبار إداريّي الدولة ليبنى على الشيء مقتضاه، خصوصاً أن هناك عتباً كبيراً على رئاسة الجمهورية التي لم تفعل شيئاً يذكر منذ بداية الأزمة، وقد ذهب البطريرك الراعي بعيداً في حماية ولاية الرئيس ميشال عون ما أثار غضب الشارع المنتفض، وهذا الأمر يدفع بقية الطوائف إلى الإمتثال بكلام الراعي ووضع خطوط حمراء حول المسؤولين في طوائفهم حتى لو كانوا فاسدين.
وربما أثار اتصال البطريرك الراعي برئيس الحكومة حسّان دياب لتهنئته حفيظة الشارع المنتفض الذي لم يرضَ بالحكومة على اعتبارها حكومة اللون الواحد وتمثّل القوى السياسية وبعيدة كل البعد عن مطالب الشارع الذي لا يلقى آذاناً صاغية من المسؤولين.
من جهتها، ترفض الكنيسة الذهاب نحو الفراغ الشامل، إذ تعتبر أن إقالة عون سيتبعه الفراغ حكماً، فعند انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، بقيت البلاد نحو سنتين ونصف السنة بلا رئيس جمهورية، أما الآن فالوضع أسوأ، فأي رئيس سينال إجماع الشارع، وهل هذه المهمة سهلة؟
وترى الكنيسة أن الأفضل هو الإنتقال السلمي والديموقراطي للسلطة، واحترام الإستحقاقات الدستورية وتفعيل الرقابة الشعبية والقضائية والبرلمانية على عمل السلطة كي لا ينفجر الوضع وينحدر نحو قعر الهاوية.
دعوة إلى التهدئة
وظهر هذا المنحى بتفضيل الخيارات الدستورية خلال القمة المسيحية التي انعقدت أمس في بكركي حيث أبدت ارتياحها لولادة الحكومة، ودعت إلى انتظار أدائها في القدرة على كسب ثقة الشعب اللبناني.
وطالبت أهل السياسة أن يواكبوا بروح إيجابية العمل الحكومي، حتى يتسنى للحكومة الإنصراف إلى تنفيذ الإصلاحات المطلوبة.
ودعت المواطنين المتظاهرين وبخاصة الشباب منهم إلى التعامل بحكمة مفسحين المجال أمام الحكومة لتحمل مسؤولياتها، بحيث يأتي التقييم لهذا العمل تقييماً واقعياً وموضوعياً وحضارياً.
في المقابل أدانت القمة بشدة الغوغاء في الشوارع والساحات، خصوصاً في بيروت، مخافة أن يميل الحراك عن أهدافه النبيلة. وناشدت العاملين على تأجيج العنف، العودة إلى العمل الديموقراطيِ الصحيح والسليم. فليس المال العام والخاص مطية للغايات المريبة، ولا إراقة الدماء هي السبيل السوي للخلاص الوطني.
المساعدات الخارجية
وبما أن مطلب استعادة الأموال المنهوبة هو الأبرز لدى الثورة، لفتت القمة إلى وجوب المسارعة في محاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، وضبط الهدر المتواصل في المال العام، كشرط لا بد منه للدفع بالاقتصاد اللبناني نحو الإنتاجية الكفيلة وحدها بضبط الحركة المالية، وتحقيق دورة اقتصادية طبيعية تنمي القطاعات المختلفة، بما يحقق الإستقرار ويساعد في وضع برامج مستقبلية وفي إنجاحها.
وبما أن لبنان بحاجة إلى دعم خارجي، حثت القمة المجتمع الدولي والدول العربية، أن يساندوا لبنان في الإصلاح الإقتصادي والمالي والإنمائي حتى يستعيد دوره المنفتح والمسالم، والعامل من أجل السلام ونصرة الشأن الإنساني في محيطه، فيتجنب ما تسببه التجاذبات الخارجية من معاناة على أرضه. وناشدت اللبنانيين المنتشرين كي يكثفوا جهودهم في دعم وطنهم الأم ومساعدته على استعادة العافية على كل الصعد.