لم يكن ينقص لبنان الذي يبدو هذه الأيام كـ «الغريق الذي يبحث عن قَشة» إلا أن تتقاطع أزمتُه المتعددة البُعد، سياسياً ومالياً ومصرفياً ونقدياً واجتماعياً، مع «العصْف» الذي بدأ لـ «صفقة القرن» وما ستُفضي إليه، بمعزل عن فرصِ تحقيقها التي «تقترب من الصفر».
وحتى قبل أن يعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب تفاصيل «صفقة القرن»، ليل أمس، تدحرجتْ الأسئلةُ في لبنان حول تأثيراتها على صعيد إعادة ترتيب الأولويات الداخلية من زاويتيْن:
* الأولى كنتيجة تلقائية لوهج هذا التطور الذي تجد «بلاد الأرز» نفسها على تماسٍ مباشر معه ليس انطلاقاً فقط من الموقف المبدئي الداعم للقضية الفلسطينية وما يشكّله تاريخ 28 يناير 2020 من «صفعة» كبيرة لمبادرة السلام العربية (أقرت في قمة بيروت عام 2002) والتي صارت الإطار الناظم للموقف العربي من الصراع مع اسرائيل، بل أيضاً نظراً إلى حضور العامل الفلسطيني في الواقع اللبناني عبر ملف اللاجئين.
* والثانية الخشية من محاولةٍ لاستغلال هذا الحَدَث لحرْف الأنظار أو حتى التسلل من خلف «الغبار» الذي سيُحْدِثه لـ «كسْر شوكة» ثورة 17 أكتوبر التي صارتْ «الرقمَ الصعبَ» في المعادلة الداخلية رغم سعي السلطة السياسية وأحزابها الحاكِمة لتدجينها تارةً وترويعها طوراً أو حتى «تفخيخها» لـ «تعطيل» مَفاعيلها.
وإذ أعلنتْ الفصائل الفلسطينية في لبنان عن «يوم غضب» في المخيمات (اليوم) تنديداً بـ «صفقة القرن»، برزت علامات استفهام حيال كيفية تَلَقُّف «حزب الله» هذا التطوّر وإذا كان من شأنه أن يبدّل في «أجندته» داخلياً سواء على صعيد برنامج عمل وأولوياتِ أوّل حكومة تكون لها اليد الطولى في تشكيلها مع «حلفاء الصف الواحد» في قوى 8 آذار، أو لجهة إمكان استثماره في تحريك شارعه رفْضاً لـ «تصفية القضية الفلسطينية» على قاعدة «لا صوت يعلو فوق صوت» الخطر الداهم الذي يهبّ عبر «الأوعية المتصلة».
وفيما تستبعد أوساط واسعة الإطلاع عبر «الراي»، أن يعمد «حزب الله» إلى «تجييش» الداخل (أبعد من إطلاق المواقف) بمواجهة «صفقة القرن» استناداً إلى حاجته للحدّ من استدراج المشاكل الإقليمية إلى أحضان تركيبة جديدة هو معنيّ بتوفير ما أمكن من فرص النجاح لها و«تثبيتها» مع ما يحمله ذلك من أبعاد بعيدة المدى ذات صلة بالتوازنات اللبنانية بامتدادتها الخارجية، إلا أنها توقّفت عند ملامح مخطّط من الائتلاف الحاكم للانقضاض على الانتفاضة وحتى محاولة «اجتثاثها» و«محو» مَظاهرها و… معاقلها.
وفي هذا الإطار، تحدّثت الأوساط عن الدلالات البالغة السلبية التي يعبّر عنها ما حصل أمس في «ساحة الشهداء» في وسط بيروت حيث حاولت القوى الأمنية فتْح الطريق المقابلة لمبنى «النهار» باتجاه مسجد محمد الأمين وإزالة العوائق الحديد التي كان وضعها المتظاهرون.
وسريعاً بدا المُنْتَفِضون «مرتابين» من قرارِ فتْح الطريق الذي تَصدّوا له بأجسادهم التي افترشتْ الأرض وأوْقفوا تنفيذه بعدما تلقّوا «مؤازرةً» شعبية أعقبتْ سلسلة «نداءات» وجّهوها وحذّرت من اتجاهٍ لفكّ الخيم في الساحة تمهيداً لفضّ الاعتصام المفتوح فيها منذ 104 أيام، مع ما يعنيه ذلك بالنسبة إليهم من محاولة «إعادة عقارب الساعة إلى الوراء» أي إلى ما قبل 17 أكتوبر «وكأن شيئاً لم يكن» وقبل تحقيق مطلب قيام حكومة اختصاصيين مستقلين تمهّد لانتخابات نيابية مبكرة، وأيضاً سعي لحصْر الثوار بساحة رياض الصلح التي باتت جزيرة معزولة «مصفّحة» بمكعبات الاسمنت والأسلاك الشائكة بحيث تتحوّل الانتفاضة «صوتاً بلا صدى».
وفي ما تعزّز اقتناع المتظاهرين بأن وراء الحركة الأمنية في «بقعة الثورة» في ساحة الشهداء ما وراءها مع التقارير التي تحدّثت عن محاولة لفتْح الطريق في ساحة النور في طرابلس، التي تعُتبر رمزاً كبيراً أيضاً للثورة، نفى وزير الداخلية محمد فهمي «وجود قرار أمني صادر عنه لفض اعتصام وسط بيروت الليلة»، مشيراً الى «أن إزالة الحواجز الحديد عند مداخل ساحة الشهداء أتت بهدف تسهيل حركة المرور أمام المواطنين في العاصمة».
وجاءت هذه التطورات غداة فرْض العامل الأمني نفسه على إيقاع جلسة إقرار موازنة 2020 في البرلمان وما تَسَبّبتْ به من «ندوبٍ» دستورية وسياسية نظراً إلى ما رافقها من التباساتٍ ومفارقات غير مسبوقة، تبدأ بـ «الانفصام» الذي عبّر عنه «تبني» رئيس الحكومة حسان دياب باسم حكومته التي لم تنل ثقة مجلس النواب بعد موازنة حكومةٍ سقطت بفعل الانتفاضة التي أعلن دياب نفسه أن تشكيلته «تعبّر عن تطلعاتها»، ولا تنتهي بأرقام الموازنة التي «غابتْ» عن الإعلام لاقتناع الخبراء وحتى أركان السلطة أن تطورات الأشهر الثلاثة الأخيرة «أكلتْها».
واعتبرت الأوساط المطلعة أن الائتلاف الحاكم قد يحاول في الأيام الفاصلة عن إنجاز الحكومة البيان الوزاري الذي يفترض أن تنال على أساسه ثقة البرلمان الأسبوع المقبل، ليّ ذراع الانتفاضة عبر «التكشير عن أنيابها» ولو «الناعمة»، تمهيداً للانطلاق بعملها و«تثبيت أقدام» المعادلة السياسية الجديدة، وسط رصْدِ كيف ستنجح في نيْل دعْم خارجي لا مفرّ منه لـ «النجاة» مما هو أكثر من ورطة مالية – اقتصادية، وهو المسار الذي يشترط له المجتمع الدولي إصلاحاتٍ جديةً «تُسْكِت» اعتراضات «دافعي الضرائب» على تقديم أموالها لحكوماتٍ تبدّدها بالفساد أو الإهدار، وأيضاً تموْضعاً سياسياً يرتكز على النأي بالنفس وتطبيق القرارت الدولية.
في حين ترى الأوساط أن تدحْرُج الوجع والجوع في المرحلة المقبلة سيكون «جرس الإنذار» الذي سيطارد الحكومة ويُبقي الانتفاضة «حيّة» بل ينذر باتساع رقعتها، استوقفها تذكير المنسق الخاص للامم المتحدة في لبنان يان كوبيش بعد لقائه وزير الخارجية ناصيف حتي بـ «أهمية الاستماع الى مطالب الشعب وأن تلتزم الحكومة بالتعهدات الأساسية وتنفيذ القرارات الدولية والاستمرار بسياسة النأي بالنفس». علماً أن حتي تلقى اتصالاً من الوزير البريطاني للشرق الأوسط اندرو موريسون الذي أعرب عن استعداد بلاده لمساعدة لبنان للخروج من الأزمة الاقتصادية.
وفي موازاة ذلك، برز موقف بطاركة الكنائس المسيحية الشرقية ورؤساؤها بعد قمة روحية عقدوها أمس بدعوة من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي إذ سجلوا بعد ولادة الحكومة ارتياحهم «إلى وجوه وزارية من أصحاب الاختصاص والخبرة»، داعين «المتظاهرين إلى التعامل بحكمة مفسحين في المجال أمام الحكومة لتحمل مسؤولياتها».