من ساحة الشاعر خليل مطران مقابل قلعة بعلبك والتي اتخذها الثوار من جميع الطوائف والفئات مكاناً لتجمعهم، ومن على بعد أمتار عن قلعة بعلبك يشكل حي المسيحيين في بعلبك أحد أهم الأماكن التي طبعت في ذاكرة البعلبكيين، فكان عنواناً للرقي يقصده أبناء المدينة من مختلف الطوائف والفئات حيث تقام فيه اللقاءات والندوات ولا تزال، وحيث ارتبطت أسماء الحارات والأحياء فيه بالعائلية والطائفية يحافظ الحي على مكانته وموقعه المقابل لقلعة بعلبك.
كقدم وجود قلعة بعلبك يرجع تاريخ الوجود المسيحي في المدينة، حيث بنيت اول كنيسة على أنقاض مذبح التضحية الذي كان متواجداَ ضمن هياكل قلعة بعلبك التي تجاورها اليوم الكنائس الثلاث التي تحيط بالحي: كنيسة القديستين بربارة وتقلا، كنيسة مارجورجيوس، وكنيسة السيدة، وتقابلها الأبنية التراثية القديمة التي تتميز بقناطرها وسقف القرميد والذي أعطى للمكان جمالية تضاهي جمالية القلعة، حيث يقصده السياح للتمتع بمشاهد حرفية البناء ودقة التصميم.
أكثر من ثمانية آلاف مسيحي انتشروا في مدينة بعلبك قبل الحرب الأهلية حيث شكلوا ثلث سكان المدينة، وسرعان ما بدأ هذا العدد بالتراجع إبان الحرب حيث بدأ الأهالي يبيعون منازلهم ومحالهم في السوق ويغادرون باتجاه بيروت وزحلة، فيما عمد البعض الآخر للهجرة، ليقتصر الأمر على عدد قليل من العائلات لا تزال حتى اليوم، أما المغادرون فيأتون خلال فترة الصيف لأيام وخلال استحقاقات إنتخابية بلدية وإختيارية.
المشاركة السياسية للمسيحيين في بعلبك تقتصر اليوم على عضوٍ واحد في بلدية بعلبك بعد ان كانوا ثلاثة خلال الفترة الماضية، ونائبين اثنين من أصل عشرة على صعيد محافظة بعلبك الهرمل كان حزب الله له الكلمة الفصل في اختيارهما ونجاحهما، فيما أعاد القانون الإنتخابي الجديد الحق للبعض باختيار ممثليه، ومع كل هذا يمارس المسيحيون في بعلبك شبه إستقالة من الحياة السياسية العامة بعد ان باتوا يشكلون نسبة خمسة بالمئة من سكان المدينة.
تراجع المشاركة في الحياة السياسية وتبديل بعض المواقع التي كان يشغلها مسيحيون في المدينة كمنصب القائمقام وقائد الدرك ومدير البريد، لا يلغي نجاح مدرسة المطران تربوياً والقائمة وسط الحي والتي تضم المئات من تلاميذ وأبناء الطوائف الإسلامية.
راعي أبرشية بعلبك للروم الملكيين الكاثوليك إلياس رحال وفي حديث لـ “نداء الوطن” يربط تاريخ المسيحيين ووجودهم في مدينة بعلبك وانتشارهم إلى بداية القرن الثاني الميلادي العام 112م، حيث ظهر اسم القديسة إيفدوكيا والتي ماتت شهيدةً على يد الرومان خلال العهد الوثني، وكانت كنيسة البربارة ومبنى المطرانية الذي يقطنه المطران اليوم داخل حرم وسور قلعة بعلبك، وفي العام 1759 وبعد الزلزال الذي ضرب بعلبك وقلعتها خرج المطران في ذلك الوقت والكهنة واستأجروا منزلاً، وبدأو بناء أول كنيسة في المدينة العام 1827.
يفيض المطران رحال في حديثه عن المدينة وعلاقته بأهلها من مختلف الطوائف وهو الذي يقطنها ويترأس مطرانيتها للروم الملكيين الكاثوليك منذ العام 2004، ويشير إلى علاقاته المميزة مع السنة والشيعة والأحزاب أيضاَ بما فيها حزب الله، ويقول: لم اسمع كلمةً نابية تسيء لي أو لإخواني منذ تواجدي هنا وهو فخرٌ للمدينة واهلها، وأشارك في كل المناسبات وخصوصاً تأبين الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الوطن. ويضيف أن إحتفالات الطائفة المسيحية لا تزال كما هي في المدينة نحتفل بها من دون اي مضايقات ويشاركنا فيها إخواننا المسلمون، وكما يحلو له تسمية بعلبك بـ “قلب لبنان” يميزها أيضاً بالعيش الواحد والمشترك.
شكلّ المسيحيون في بعلبك العام 1935 ثلث سكان المدينة حيث بقي الوجود المسيحي فيها قائماً حتى بداية الحرب الأهلية وبدأ معها النزوح من المدينة وعمد الأهالي إلى بيع منازلهم والتوجه نحو مدينتي زحلة وبيروت، وتراجع عدد المقيمين من الثمانية آلاف إلى ما دون العشرين عائلة اليوم. مختار الحي جورج عوض وهو الذي يشغل محلاً للشرقيات في ساحة المطران منذ العام 1948 يشير لـ “نداء الوطن” ان العدد الأكبر من الناس باع محاله ومنازله واشترى في بيروت وزحلة، وتقتصر محال المسيحيين في المدينة على خمسة فيما كانت كافة المحال في ساحة المطران يديرها أبناء الطائفة، اما اليوم فالعديد منها بيع في الساحة ووسط السوق التجارية، وهناك قسم من المحال مؤجرٌ يعود ريعه وملكيته للمطرانية.
واضاف عوض أن للحي مختارين من أصل ثلاثين مختاراً لمدينة بعلبك، ورغم قلة عدد المقيمين فهناك معارك إنتخابية تحصل عند كل إستحقاق ويشارك المسجلون في القوائم الإنتخابية بنسبة 20 بالمئة، وحول العلاقة مع المحيط يشير عوض الى أن العلاقة مبنية على الإحترام والتفاهم.
شاهدة على التاريخ
وفيما ارتبط اسم مدينة بعلبك باسماء ومعالم كالشاعر خليل مطران وبفندق بالميرا وغيره من الأماكن الأثرية، تبقى تلك الأسماء والأماكن شاهدةً على قدم وتاريخ الوجود المسيحي في بعلبك الذي أعطى للمدينة ميزة فريدة ونادرة.