Site icon IMLebanon

من مجمّع الحدث إلى الجامعة الأميركية قصص ومغامرات كثيرة

كتبت مريم سيف الدين في “نداء الوطن”:

 

بين موقفه القريب من مجمّع الجامعة اللبنانية في حي السلّم ومستشفى الجامعة الأميركية في بيروت يصول الفان رقم 4 ويجول على كيفِه، بلا حسيب أو رقيب. وتنشط المنافسة بين السائقين على الخط الذي أصبح خطاً للثورة من الضاحية مروراً بساحتَي الشهداء ورياض الصلح وصولاً إلى مصرف لبنان.
يتمتع سائقو الفان رقم 4 بمواهب مميزة في القيادة وقدرة على انتهاك كلّ قوانين السير بأقل خسائر ممكنة. فلا احترام للقوانين وللسلامة العامة في شرعة الرقم 4، ما يجعل من الراكب مشروع مصاب على لائحة الحوادث المرورية. ولا ينفي ذلك حقيقة أن الفان رقم 4 بات يشكل خلاصاً لآلاف المواطنين، وتحديداً للفئات الشابة. إذ يؤمن لها التنقل بين نقطتين حيويّتين، مقابل 1000 ليرة، إضافة إلى فرصة عيش الكثير من المغامرات والتجارب.

تهوّر ومغامرات ونقاشات

ويتميّز سائقو الفان رقم 4 بشخصيّات مثيرة للاستغراب، ربما يطبعها الملل والعمل اليومي على الخط ذاته، حيث على السائق أن يفرض هيبته ليستمر. فلا مكان للضعفاء على هذا الخط، خط المنافسة الشرسة التي لا تحتمل التراجع أو التهاون، وحيث يدفع السباق على الراكب بالسائقين لتصرفات جنونية. يُتّهم هؤلاء بالتعامل مع الركاب كملك خاص، وتقول النكتة أن السائق عندما يرى الراكب يراه على هيئة ورقة نقدية من فئة الـ1000 ليرة. كل هذه التصرفات طبعت في ذهن الراكب صورة نمطية عن السائق الذي يوصف بغرابة الأطوار. فمثلاً قد تفاجأ بأن يترك السائق المقود ويخرج نصفه من باب الآلية ليغسل وجهه أيّام الحر بينما يسير ببطء، فلا تصدق المشهد وينقبض قلبك. أو قد يدفع الخلاف بين سائقين على راكب لأن يغامرا بحياة جميع الركاب فيزاحما بعضهما إلى حد أن يسعى أحدهما لصدم الآخر متناسياً أن في الفانين أرواحاً. في لحظات كهذه يخيم الهلع على بعض الركاب، بينما يتصرف ركاب آخرون بشكل طبيعي، كونهم اعتادوا هذه التصرفات، بينما قلة تجرؤ على الاعتراض على هذا التهور، فالأغلبية راضخة لحكم الفان.

يبرِّر السائقون هذه المبارزة بسعيهم لتأمين أجرة الفان وقوت يومهم. مبارزة لا تخلو من لوم السائقين بعضهم أحياناً، ليعاتب سائق من يزاحمه قائلاً “لقد أفرغت عدة نقلات اليوم فاتركني استرزق” في محاولة لحث الآخر على الانكفاء عن الطريق وكأنها محاولة لتوزيع “مغانم” الخط بشكل عادل. ويتضامن هؤلاء في ما بينهم أحياناً، فيعتمدون على مجموعات “الواتساب” ليحذّروا بعضهم من الحواجز الأمنية التي قد تجدُّ أحياناً، أو من زحمة السير وغيرها من أمور الطرقات. كذلك يسعون عبرها للإبلاغ عن الأغراض التي يفقدها الركاب في سياراتهم، وعادة ما توضع في المواقف التي ينطلق منها الفان، بانتظار أن يتفقدها أصحابها.

وللفان ميزة السير بسرعة خارقة ليوصلك إلى وجهتك خلال دقائق، ميزة يسعد بها المتأخرون على أشغالهم، بينما تتحول إلى كابوس بالنسبة لآخرين، فيهلعون ويبدأون بالصلاة وتزداد دقات قلوبهم تسارعاً عندما يزيد السائق من سرعته. أما الإشارة الحمراء فلا تعني السائق فلا يهين عليه التوقف عندها، ولا تعيق الزحمة سيره إذ “يزورب” سالكاً الطرق الفرعية، يصعد على الرصيف، يعبر عكس السير، لكنه في النهاية يصل بسلامة. قيادة متهورة يلحظها سائقو السيارات الخاصة فيتنبهون جيداً من الفان الذي حفظوا اسلوبه. فهو المعروف بسرعة انتقاله من اليسار إلى اليمين لالتقاط الراكب، والتوقف فجأة في منتصف الطريق. ويتجنبون مزاحمته لإدراكهم بأن سائقه لا يخشى حوادث السير بل يفتعلها إن غضب.

على الرغم من هذه التصرفات، يمنح الفان الشهير ركابه فرصة خوض العديد من المغامرات والتجارب المسلية وسماع الناس والحوارات. فالفان المنطلق من أحد أحياء الضاحية الجنوبية الأكثر فقراً والذي يمر من الوسط التجاري حيث الأبنية الأكثر فخامةً ليصل إلى “الحمرا” نقطة التقاء شرائح وطبقات مختلفة من المجتمع، خلق مساحة عامة حرم منها الشباب. ليناقش أشخاص بالكاد التقوا مسائل سياسية واجتماعية ودينية، خلال الرحلة التي قد تستغرق ساعة في حالات الزحمة الشديدة. وعادة ما تبدأ النقاشات من شخصين لتمتد لغيرهما داخل الفان.

عصابات تُنظّم عمل الرقم أربعة

خلف الصورة العفوية لحركة الفانات والفوضى القائمة، عصابات تنظّم عملها على هذا الخط في ظل غياب كامل للدولة. تحتلُّ هذه العصابات نقاطاً حيوية على الطرقات، تحوّلها لمواقف عبر “السلبطة” تحت أنظار البلديات وعناصر قوى الأمن الداخلي. فتحدد هي من يُسمح له بالتوقف على الطريق وانتظار صعود الركاب وملء مركبته قبل الانطلاق، مقابل خوّة يدفعها تحت طائلة التكسير. فتتحول الأملاك العامة لملك خاص صالح للإستثمار من قبل الأقوى، وإن تسبب ذلك بزحمة السير وبالإشكالات التي تنتهي أحياناً بإطلاق نار وسقوط جرحى. هي فوضى وصفها مدير عام مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك، زياد نصر، بـ “الفوضى المنظمة” في حديث سابق إلى “نداء الوطن”. إذ يدرك نصر جيداً، كما الدولة، وجود من يدير هذه الفوضى في غياب دور أساسي مركزي للدولة اللبنانية. يومها حمّل نصر المسؤولية في تنظيم وضبط قطاع النقل الذي يتوسع على حساب مصلحة النقل المشترك، لوزارة الداخلية وقوى الأمن الداخلي ووزارة الأشغال. وفي ظل تقصير هذه المؤسسات باتت سلطة الأمر الواقع أقوى من سلطة الدولة المنكفئة لصالح المافيات، بل وباتت المافيات تفرض القيود على عمل الدولة، وفق اعتراف المعنيين.

الرقم 4 يُسهّل حياة كثيرين

ومهما كثرت الأخبار، يظل للفان 4 مكانة عزيزة في قلوب العديد من ركابه، وبعضهم يعتبره “أسلوب حياة”. يخصصون له مساحة كبيرة من أحاديثهم، يسخرون من سيئاته فتصبح مادة للتهكم. ولا يدفعهم ذلك لإنكار حسناته ورواية العديد من تجاربهم، وإن اختاروه مكرهين وسيلة نقل يومية. هؤلاء باتوا يملكون خبرة في الفانات، يلاحظون الفرق في ما بينها، يميزون بين مقاعدها ومساحتها من الداخل، فيعلمون في أي منها يمكنهم الجلوس مرتاحين. ويتجنب الركاب الجلوس على المقعد الذي يطوى، حيث يمر الركاب، ما يضطرهم إلى النزول والصعود باستمرار.

لا خصوصية للفرد في الفان، حيث قد يصبح الهاتف محط أنظار الجالسين بقربه. فتجد، مثلاً، من يصحح لك خطأً إملائياً بينما تكتب أحد النصوص عبر تطبيق واتساب، وتحتار عندها، أتضحك لشدة تركيزه بما تكتبه أكثر منك، أم تلفت نظره بأن عليه أن لا يتطفل على محادثات غيره. واحذر، ففي الفان بعض المحرمات، كأن تعطي السائق عملة من فئة العشرين ألفاً وما فوق عند النزول من الفان. حينها سيصبّ عليك كامل غضبه. وهو محق، إذ سيتسبب ذلك في ازدحام السير بعد أن يجبر السائق على البحث عن 19 ألفاً لإرجاعها بينما تنتظر السيارات خلفه انتهاء العملية.