IMLebanon

الحريريون سقطوا… ماذا عن الحريرية؟

كتب نجيب نصرالله في “الاخبار”:

لو لم تُفرّغ اللحظة الحراكية المجيدة، أو تُشوّه، لتغيرت الأحوال كثيراً أو قليلاً. ولأمكن إطلاق النقاش الممنوع حول ضرورة وواجب الإمساك بالمصير اللبناني، وتالياً العربي، بعيداً عن منظومة التبعية الغربية الصلبة وأثقالها الحاجزة والمانعة. ولو وُجدت القيادات الوطنية المسؤولة والواعية لتوازنات القوى، وتداخل أزمات المنطقة وترابطها الوريدي مع سياسات المركز الاستعماري الغربي، لأمكن كسر الأقفال الغربية وفتح الباب، ولو جزئياً، أمام إمكان تحويل المستحيل اللبناني إلى ممكن عربي تحرّري يكسر القيود المفروضة، ويقدّم مثالاً عن قدرة الجمع بين التطلّب الوطني – القومي والإمكان والديمقراطي الممنوع أميركياً.

عندما يتجرّأ مطرب «البلد ماشي» و«لعيونك» (وأمثاله من أيتام الحريرية)، على ادعاء الانتساب إلى «الحراك»، ولا يتصدّى له أحد ولو بكلمة حتى لا نقول أكثر، فهذا يعني أن هناك مشكلة كبيرة، وعطباً أخلاقياً فادحاً، يُسأل عنهما «الحراك» وأهله قبل أن يُسأل عنها المطرب الذي تجمع الآراء المتنافرة على اعتباره واحداً من أفراد الجوقة، أو الحاشية «الإعلامية – الثقافية»، التي زيّنت لجرائم الحريرية، وأولاها جريمة مصادرة العاصمة بيروت وتشويه معالمها وسرقة قلبها وتدمير نسيجها وتهجير ناسها واسترهان مستقبلها…

الكلفة باهظة ولا شكّ. فالحطام يملأ الأرجاء. والبلد الصغير المحاصر، تكوينياً، بانفجار الأزمات الدورية وتعذّر الحلول، يكابد، اليوم، للخروج من جحيم الطاعون الحريري الذي ضرب قبل أكثر من ثلاثة عقود، وفتك بمفاصل الاجتماع، ونال من خلاياه الحيّة، وكاد لولا بقية من وطنية ومقاومة حرّرت الأرض وأقامت الردع، الذي لا يُقدر بثمن، أن يُقضى عليه قضاء مبرماً.

الكلفة باهظة ولا شكّ. فالخراب العميم الذي أورثتنا إياه الحريرية لم يترك ناحية وصل إليها إلا وسمّمها، من السياسة إلى الاقتصاد إلى الإعلام… وأحالها إلى يَباب كامل. الغضب الذي فجّرته تظاهرات «17 تشرين»، وشمل مفاصل الخريطة كاد، لو وُجدت القوى الحيّة والمسؤولة، أن يفتح الباب على تحوّلات تاريخية تقطع، بهذه الصورة أو تلك، مع ذهنيات وممارسات، قبل أن نقول سياسات. إلا أنها نتيجة التردّد والمراوحة، وغيرها من الأفعال المقصودة أو «العفوية»، لم تفعل غير «شرعنة» الذهنيات والممارسات وحتى السياسات السابقة عليها وإعادة تكريسها. لكن، مع ذلك، يبقى أن لهذه الغضبة غير المسبوقة لبنانياً، ورغم كل ما اعتراها من صبيانية وخفّة وانعدام خيال… فوائد تبشّر – وهذا منجز يُبنى عليه – بسقوط الكثير من الأوهام ومعها الأكاذيب التي حكمت اجتماع البلد ولوّثت معاش أهله، بل ومكّنت لصوص العالم وبعض شذّاذ الآفاق من النفاذ والإمساك والسيطرة. ومع ذلك، يبقى أن المهم هو تجاوز الحريرية وطي صفحتها القاتمة. وهذا، رغم كل ما أُحرز، لم يُنجز تماماً بعد، وتحقيقه بات مطلباً وحاجة لا إقلاع للبلد من دونها. بل إن كل تأخير في إنجاز هذه المهمة المقدّسة هو إمعان في إضاعة الوقت الثمين، وتسهيل تدمير ما تبقّى من عناصر الحياة أو الحيوية الباقية. والتجاوز يعني، أساساً، قلباً كاملاً للطاولة يطاول الأفكار والمقاربات والرؤى والسياسات، وصولاً إلى إزاحة الأشخاص الذين يتابعون وظيفيّتهم الحريرية الكارثية.

إن تجاوز الحريرية مرهون بمدى جذرية قوى الاعتراض العابر لترسيمات السيطرة والاستتباع ومنظومتها الموزّعة في ميادين السياسة والاقتصاد والإعلام والثقافة… وبمدى وضوح رؤيتها. وهو، للأسف، ما لم يتبلور حتى اللحظة، بدليل هذه المراوحة والغفلية والإصرار على تغييب العناوين الصحيحة المسؤولة عن الجريمة شبه الكاملة التي أطاحت بالبلد وأفقرت ناسه ورهنت مستقبله، الأمر الذي يهدّد بإطالة عمر الاحتضار وضياع ما تبقى من احتمالات تغيير اتجاه السير السياسي والاقتصادي، والذي من أولى بديهياته الإقلاع عن التعميم، وبلورة الهوية الطبقية – الوطنية، ورسم الأهداف والسبل الآيلة إلى تحقيقها ومن ثم تنقية الصفوف من كل الأدران. وأول هذه الأدران يكمن في طفيليات الـ «أن. جي أوز.» وطفيلييه، والعمل من بعدها على حشد القوى باتجاه التصويب، وتالياً النيل المادي الصريح والمباشر من الفاعل الحقيقي، وخصوصاً أن بعض عُتاته – ومن دون أدنى خجل أو خشية – يتصدر الصفوف الأولى، بل وفي أحيان كثيرة نراه يقوم بأدوار قيادية. ولا حاجة هنا إلى تلطيخ النص بذكر أسماء هذا المرتزق أو تلك المأجورة من رجال ونساء البلاط الحريري الذين ضربوا بالسيف ما أسّس لكل هذا الخراب الذي لم يكن خافياً على كل من أدرك مسؤوليات اللحظة الوطنية التي تلت وضع الحرب الأهلية لأوزارها وتصدّى للحريرية، غير مبالٍ لا بالتهميش ولا بالإقصاء اللذين شكّلا عماد التوجه الحريري في جوابه على المختلفين معه…

اليوم، رغم الإرباك العام المسيطر وافتقاد أكثرنا لليقين نتيجة اتساع وحدّة ومصيرية الصراع الدفاعي الذي تخوضه المنطقة، فضلاً عن تشابك الملفات وتداخلها الناجم عن اشتداد الهجمة علينا، والإعلان عن «صفقة القرن»، يمكن القول إن الاختراق الذي مثله «الطائف» السياسي، الذي أتى برفيق الحريري حاكماً ملكاً، يعيش سكرات الموت. فالنظام اللصوصي الذي أقيم غداة «الانقلاب على الطائف» يلفظ، هذه الأيام، أنفاسه الأخيرة. فالحريرية، ومن مختلف جوانبها، لم تكن بأقل من جائحة فتكت بالبشر والحجر وأدّت إلى تدمير نسيج العاصمة وإفراغها من أهلها، وإلى تجويف الاقتصاد وتدمير الزراعة وتسطيح الثقافة وغيرها من الموبقات التي أسّست لهذا الانهيار الذي يعيش البلد تداعياته الكارثية، وأوصلت بالنتيجة إلى وضع يمكن تسميته بتصحّر الزرع وإبادة الضرع.

في أعقاب «موقعة» الانتخابات النيابية التي جرت عام 2000، وطوال الفترة التي سبقت استعادة رفيق الحريري لموقعه في رئاسة الحكومة، وتالياً السراي الكبير، بطابقه المضاف، والمُخِلّ، عنوة وقسراً، راج رأي يقول إن الحريري قد أفاد من فترة إبعاده عن الضوء، وإنه عكف خلالها على مراجعة تجربته السابقة وخلص إلى استنتاجات عيّنت له أخطاء الماضي (السابق على «الإقالة») التي لن يكررها. هذا الرأي عمّ على نطاق واسع، وجرى تبنّيه من أكثر من جهة. إلا أن الوقائع التي تلت تلك العودة («المظفّرة» مذهبياً)، وسلوك الحريري التالي على العودة، كشفا سريعاً خطأ هذا الرأي ولا صوابيته، بل وأوضحا أنه لم يكن غير أكذوبة إضافية أعدّت في الغرفة ذاتها التي اعتادت تصدير القرارات الحريرية واستمرت حتى اليوم وإن بكفاءة تفرض على أصحابها الخجل.

لم يخف الحريري تعبيره عن الضيق من المخالفة والمساءلة، ولم يتورع في غالب المحطات عن الاستعانة بالعصا السورية (غازي كنعان ومن بعده رستم غزالي) في مواجهة الآراء المخالفة، وكان عند كل ضائقة سياسية أو أخلاقية يشهر أسلحته المستعارة. ويذكر الجميع إدمانه على سلاح بائس اختصره بعنوان أن الثقة (المقصود بها ثقة الخارج الغربي) هي أساس نجاح الاقتصاد والسياسة، والنيل من هذه الثقة هو الذي ينتقص من لبنان ومن دوره، وأن امتلاك الثقة أو الحفاظ عليها هو السبيل للخروج مما هو فيه من أزمات، محمّلاً، على ما اعتاد وألف، خصومه ومعارضيه مسؤولية كل رأي أو موقف مغاير وتصويره على أنه المسّ الأكبر بهذه الثقة! ولا حاجة للقول إن الثقة بمفهومها الحريري كانت في الكفّ والامتناع التامين عن تعيين الأخطاء الجوهرية التي حكمت سياساته وأوجبتها، معتبراً – كدأبه – أن النقد الذي يطاول هذه السياسات هو وحده الذي زعزع ويزعزع الثقة بلبنان، متغافلاً ومغيّباً لخلل الفكرة والمشروع ولدوره ومسؤولياته الواضحة في هذا المجال. والواقع، وهو ما تبدّى مع مرور الأيام وانقضاء المراحل، أن سعي الرجل كان يتمحور ويتلخص بتكريس الصمت المطبق (نجح لاحقاً في فرضه مستعيناً بالقبضة الكنعانية – الخدّامية)، وهو ما كان يحلم بفرضه على معارضيه، كل معارضيه.

الحريرية من مختلف جوانبها لم تكن بأقل من جائحة فتكت بالبشر والحجر وأدّت إلى تدمير نسيج العاصمة وإفراغها من أهلها

 

ربما كانت مشكلة الحريري الفعلية تكمن في تضخّم أناه وتورّمها، وفي شغفه بصورته التي صاغها أو افترضها عن نفسه، وهو ما ترجم نفسه حين راح يزرع ساحات المدينة وجدرانها وشرفات منازلها (لقاء أجرٍ مجزٍ طبعاً). وكان اللافت في معظم تلك الصور التي شوّهت المجال العام وزادت من ركاكته خلوها من أي تعليق أو كلمة باستثناء ابتسامة بلاستيكية أو مشروع ضحكة مفتعلة على خلفية مجسّمة لورشة أو أكثر من ورش «الوسط» الذي كان أنجز وضع اليد عليه مقابل حفنة من الأوراق والأسهم الهشّة. وبشيء من المبالغة يمكن القول إن هذه الصور هي التجسيد العملي الوحيد للمشروع الأصلي، وهي ملخص المشروع، الذي وعد به، وجوهره الحقيقي.

وبالاتكاء على هذه الصور الخاوية من المعنى كان أن خاض معركة استعادة الموقع الذي تعامل معه بوصفه ملكية خاصة لا تقبل المشاركة. ومعركة الانتقام لإقصائه طيلة سنتين كاملتين قضاهما حائراً يضرب كفاً بكف قبل أن يبتسم له الحظ جراء متانة الحلف مع غازي كنعان ووليد جنبلاط، وتمكنه تالياً من تقويض المشروع البديل الذي حمل لواءه ثنائي الرئيسين إميل لحود – سليم الحص.

خلال العامين اللذين ابتعد فيهما عن الحكم، لم يتورّع عن شن الهجمات السياسية الشرسة وتحريض الخارج والداخل على مؤسسات الدولة اللبنانية، ولهذه الغاية استخدم، داخلياً، لغة مذهبية لم تكن مألوفة حتى في أقسى أيام الحرب الأهلية وأصعبها. وخارجياً استخدم علاقاته العربية والدولية التي أقامها له عرّابه السعودي. الحريري هذا الذي لم يوفر فرصة للنيل من خصومه، في الحكم والحكومة، طوال فترة الإبعاد أو الإقصاء، ولم يتوانَ عن التعرض العنيف لهم (من غير أن يبالي بآثار الهجمات الشرسة التي استمرت حتى من بعد ظفره بالموقع اللبناني الثالث مجدداً، على الثقة المزعومة التي طالما تباكى عليها)، وكان يضيق (الأدق لا يطيق) بكل كلمة أو عبارة لا تكون وفق تصميم أذنيه، مبيحاً لنفسه ما حرّمه ويحرّمه على هؤلاء الخصوم والمعارضين.

وهنا، لا يمكن أن يغيب عن البال رفض الحريري الصارم وسلوكه المناهض للبروتوكول والأعراف التي درجت عليها العادات اللبنانية، وامتناعه عن زيارة الرئيس سليم الحص لقبوله التكليف النيابي والرئاسي بمهام الموقع الذي افترضه الحريري الأب أبدياً، بل ويدخل ضمن ممتلكاته من حجر وبشر على غرار ما كان اعتاده في مملكة المنشار. بل إن إصراره وقتها على رفض أداء الزيارة الشكلية برغم تدخّل المصلحين كشف عن حقيقة أن الرجل ممسوك بدروس تلك المشيخة في ما خصّ شؤون الحكم والسلطة، وهي الدروس التي كان قد أحسن تشرّبها هناك واستحق معها جنسية ممهورة بالطاعة والولاء لصاحب العرش السعودي. والأرجح أن في طليعة ما كان يمنعه عن أداء واجب زيارة «غريمه»، الرئيس الحص، كان في احتمالات تأويلها على غير ما يشتهي ويتمنى. فهذه الزيارة لو تمت في حينه لكانت عنت بالنسبة إلى الرأي العام وإلى الآخرين إقراراً منه برسوخ صورة ما لتداول السلطة، وهو أمر مخالف للمعتقدات والمسلّمات التي فطر عليها ولا يستسيغه، فوق أنه يتناقض مع كل تلك الدروس والعادات التي اجتهد لحفظها والنهل منها في كل آن وحين. إضافة إلى تفصيل غير بسيط، فالرجل الذي اعتاد منذ توليته الموقع الثالث في الجمهورية تصدّر المشهدين العام والخاص، كان يدرك أن موقعه في الصورة المأخوذة عند الرئيس الحص لن يكون في الصدارة على ما اعتاد ودرج منذ وصوله على متن السوط الكنعاني – الخدّامي.

يمكن لمن لم يعايش تلك الفترة التأسيسية للكارثة التي يعيشها البلد هذه الأيام، والتي تتجلى في انهيار البنى واهترائها وتفلّت لصوص المصارف وحبسهم للودائع، أن يقرأ سلوك الرجل المسؤول من خلال إيثاره الشديد للصورة، وهو الإيثار الذي تجلّى هنا وهناك، ووصل إلى حد طبع المواقف وصوغها. فانطلاقاً من الصورة الجاهزة حكم، متمسكاً – لنفسه – بالصورة التي أرادها، لا تزحزحه الأخطاء ولا الخطايا. بل إن إبعاده وقتها عن تصدّر المشهد وعن مقدمة الصورة التي احتلها بالمال وعزّزها بالسلطة زاد من عناده، وجذّر من تبنّيه لتقاليد المنع والإقصاء.

والأرجح، أيضاً وأيضاً، أن تقديره الرفيع للصورة دفعه لأن يجعل منها الفكر والإيديولوجيا اللذين حكم بهما البلاد، وفي بعض الأحيان أعلاها وقدّمها على الكثير من القيم المألوفة. كما حضّ، انطلاقاً من هذه العلاقة بالصورة المرغوبة، على الاهتمام بالمظهر وصورته، والأخذ به على حساب الواقع. فألبس فريق حمايته البزات والياقات. وجعل من الثراء السريع والفاحش والصرف غير المسؤول صورة تغذّيها المخيّلة العامة بقطع النظر عن الكيفية، كيفية الوصول وكيفية تحقيق الثروة وأسبابها في بلد كان قد خرج لتوّه من حرب طويلة ومدمرة. وهو من بعد الاستيلاء على «أسواق» المدينة التي كانت بمثابة القلب والرئة للجسد اللبناني، مستعيناً بالقوانين التي سنّها بنفسه ولنفسه ونيابة عمن أتى به وبالتوافق مع شركاء محليين وإقليميين، جعل من مشروع الإعمار المزعوم صورة عما كانت قد اختزنته ذاكرته خلال جوبانه في شوارع وأحياء عواصم الدول الأوروبية على ما أشارت إليه ملاحظة المهندس هنري إده في شرحه لطبيعة ونوعية التعديلات التي كان يقترح الحريري إدخالها على المخططات الافتراضية الأولى، وهي الملاحظة التي أوردها في كتابه الذي وضعه غداة انسحابه من المسؤولية الفنّية عن المشروع.

المؤسف أن «تقديس» الرجل للصورة لم تعالجه المليارات التي تكدّست في الخزائن ولا الأصفار التي زادت في الحسابات. والأرجح أن لا تفسير ممكناً لهذا السلوك ولهذا لحضور الهائل للصورة إلا باللجوء إلى مخبوءات الكتب التي صبّت اهتمامها على محاولة فهم السلوك الإنساني وتفسيره.

الاستفادة من الفرصة والتجارة بها غير صنعها. صنع الفرصة قد يتطلب العقل والإرادة والبذل والتفاني. أما الاستفادة منها والتجارة بها فيتطلبان النقيض التام من المواصفات المذكورة آنفاً. وما فعله رفيق الحريري أنه استفاد من فرصة ضيق اللبنانيين من الحرب ونفاد صبرهم من طول أمدها معطوفاً على انعدام ثقتهم بالقادة التقليديين.

أما الحديث عن قصة النجاح التي حملت اسم الحريري فلا تعدو أن تكون أوهاماً منسوجة في الظل لم تلبث أن تبدّدت مع أولى إشارات الضوء التي لاحت خيوطها مع انفجار ١٧ تشرين الأول.

قصة النجاح الحقيقية التي تملكها الحريرية هي قصة النجاح التي كبّدت البلد وناسه المليارات وهجّرت شبابه، إناثاً وذكوراً، وغيرها الكثير من الخسائر التي لا تُعوض. وهي قصة نجاح في تحقيق ما انطوت عليه من رغبة عميقة ودفينة بالانتقام من البلد ومن نسيجه المغاير للنسيج الصحراوي المقيت.

يمكن اختصار الحال المُزري الذي آلت إليه الحريرية بالتوقف عند الاحتفاء الحريري بالظاهرة التي حملت اسم «أم خالد» (الممثلة جوانا كركي)، وتقديمها بوصفها أحد التعبيرات الثقافية أو الفنية عن «المشروع» المستمر برعاية سعد الحريري. ويعكس شكل الاحتفاء ومستواه صورة بالغة الكثافة والتعبير عن مبلغ الانحطاط الذي وصلت إليه الأوضاع الحريرية بدءاً من مطربنا المذكور آنفاً وصولاً إلى ظاهرة «أم خالد».

وقيمة هذا الاحتفاء أنه أضاء على جوهر الحريرية الخاوي. وهو الجوهر الذي غاب عن البعض في زحمة الشعارات التي لا تقول شيئاً. بل إن وريدية الصلة التي تجمع بين المطرب و«أم خالد» أوضح من نار على علم. لكن الحق يوجب الاعتراف بأن ما أُتيح للمطرب لم يتح مثله لـ«أم خالد». لذلك لم يقدّر للممثلة أن تتفوّق على المطرب والسبب أن الزمن قد تغير لصالح تراجع الإيرادات وخواء الخزائن.

يبقى أنه ومن قبيل الإنصاف المتأخر، يجب على اللبنانيين أن يسجلوا لنجاح واكيم تصدّيه المبكر للحريرية وفضح حقيقتها وكشف زيفها وكذبها بالرغم من كل ما اتسم به تصدّيه، أو شابه، من حماسة وقلة تدبير، ما أضعف من فعّالية الأبعاد السياسية والأخلاقية للمواجهة، وجعلها ترتدي طابع الصراع مع شخص الرجل لا مشروعه.

على أن الأهم من كل ما سبق هو الاعتراف بمسؤوليتنا جميعاً (وهي مسؤولية لا تسقط بمرور الزمن، ولا يمكن أن تُغتفر، لا بتقديم الأعذار ولا بغيرها) عن جريمة السماح، ومن ثم الصمت والتواطؤ، على استفراد «ضمير لبنان» واللبنانيين الرئيس سليم الحص وإسقاطه نيابياً. إنها الجريمة الحريرية الأكبر التي ارتُكبت في غفلة عن الأخلاق والقيم النبيلة التي مثّلها الرئيس الحص، وستبقى بمثابة عار يحمله البلد إلى زمن متقدّم. واعتذارنا، جميعاً، عن هذه الفعلة السفيهة التي نالت من البلد قبل أن تنال من شخص الرئيس الحص هو أقل ما يمكن فعله.

سليم الحص قيمة أخلاقية وبوصلة وطنية وقومية لكل من أضاعوا الطريق ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، وهو حال كثيرين سيطرت عليهم الأوهام وأخذهم استعدادهم للسقوط وقابليتهم له يوم حلّ القحط الحريري أوائل تسعينيات القرن الماضي. وهو كان وسيبقى كما عهدته فلسطين منارة حق وعنوان نزاهة…