كتب عمر نشابة في “الاخبار”:
ان تكرار مشاهد قيام بعض العسكريين والامنيين بضرب المتظاهرين والمتظاهرات في الطرقات وسحلهم وشتمهم يظهر الدولة بمظهر المعتدي، ويوحي بأن في لبنان دولة بوليسية تستخدم العنف المفرط لقمع شعبها. لكن الاهم من ذلك هو ان سلوك قوى الامن الداخلي يبدو مخالفاً للقانون وضارباً عرض الحائط بالمدونة السلوكية التي وضعتها قوى الامن نفسها. إزاء ذلك، أمام وزير الداخلية خياران: اما ان يتجاهل مقتضيات القانون ويستمر بتوفير الغطاء لقيادة قوى الامن مانعاً مساءلة قيادتها ومعطلاً لمراجعة جدية لأداءها، أو ان يفرض سلطة القانون فوق كل اعتبار ويعيد بعض الامل في تصحيح سلوك بعض الضباط المفرط باستخدام العنف والاعتداء على كرامات الناس.
تحدث رئيس مجلس الوزراء حسان دياب، أول من أمس، مباشرة من مجلس النواب، بينما كان بعض ضباط قوى الامن الداخلي وعناصرها ورتباؤها يستخدمون القوة المفرطة بحق المتظاهرين والمتظاهرات في محيط ساحة النجمة. قال دياب: «نحن نطلب الثقة من مجلسكم الكريم، لكن قلوبنا في الخارج، تنبض إلى جانب مطالب الناس الذين نحن منهم. ونحن نتبنّى مطالب الانتفاضة – الثورة التي أحدثت زلزالاً في البلد…».
قد لا يكون مطلب «الانتفاضة – الثورة» إحداث «زلزال»، بقدر ما هو وجوب احترام الدولة لكرامات الناس. ولا شك ان أحد اهم اوجه احترام الناس يأتي من خلال التزام ضباط القوى الأمنية والعسكرية ورتباؤها وعناصرها واجباتهم الدستورية والقانونية.
قبل عرض بعض التجاوزات التي يبدو ان بعض الضباط والعناصر ارتكبوها اول من أمس بحق المواطنين والمواطنات العزّل، لا بد من توضيح ثلاث مسائل أساسية:
– اولاً، ان ما ورد في نص البيان الوزاري، وحرفيته التزام الحكومة «حماية حق التعبير عن الرأي والتظاهر السلمي واحترام حقوق الانسان. وفي المقابل، تلتزم (الحكومة) أيضاً القيام بواجبها بدعم القوى العسكرية والأمنية المولجة حفظ الأمن والنظام العام، والتنسيق الدائم بين الاجهزة الأمنية والعسكرية» يخالف موجبات الدستور وتعهدات الجمهورية اللبنانية. إذ أن الدستور (الفقرة باء من المقدمة) ينص على ان لبنان «عضو مؤسس وعامل في منظمة الأمم المتحدة وملتزم مواثيقها والاعلان العالمي لحقوق الانسان. وتجسد الدولة هذه المبادئ في جميع الحقوق والمجالات من دون استثناء». وبالتالي، فان احترام حقوق الانسان ليس مشروطاً، ولا يأتي مقابل أي عمل آخر. ومن واجب قوى الامن احترام حقوق الناس بغض النظر عن سلوكهم. كما أن من واجب الحكومة الزام قوى الامن احترام حقوق الانسان حتى لو تعذر تقديم الدعم للقوى الأمنية والعسكرية. ولا يجوز، دستورياً، ربط واجب احترام حقوق الانسان بأي عمل آخر. والمستغرب ان نائباً من أعضاء اللجنة البرلمانية لحقوق الانسان لم يقم بأبسط واجباته بالتنبيه الى احترام الموجبات الدستورية والاعتراض على هذه الفقرة من البيان.
– ثانياً، ان وظيفة الضابط والرتيب والعنصر في قوى الامن الداخلي هي وظيفة مهنية تتطلب الاحتراف. ولا يجوز ان يكون هؤلاء سلطة مسلحة متفلتة تستدعي، عند إصابة أي من رجالها، العطف والاستعطاف. ولا يجوز ان تكون قوى الأمن معفية من واجباتها المهنية بسبب الظروف والصعوبات مهما بلغت حدّتها. فالضابط كالطبيب، لا يجوز ان يسمح لانفعالاته العاطفية بالتأثير على أدائه. ولا ينبغي ان يُسمح لقوى الامن باستخدام وسائل او أسلحة او سلوكيات لا يجيزها القانون. وعلى الضباط والرتباء والعناصر ان يخضعوا للرقابة الدائمة من قبل السلطة المسؤولة عنهم، ومن قبل جهاز التفتيش والأمن العسكري.
– ثالثاً، ان مسؤولية التعامل مع التجمعات المدنية غير المسلحة وحركات الاحتجاجات الشعبية تعود حصرياً لقوى الامن الداخلي. ويفترض ان تقتصر مهمة الجيش اللبناني على تقديم الدعم والمؤازرة ضمن اختصاصه الحربي. فلو استخدم المتظاهرون السلاح، لكان طلب وزارة الداخلية المؤازرة من الجيش ضرورياً. إذ ان مواجهة المسلحين تقتضي خبرات قتالية حربية. أما استقدام قوات عسكرية خاصة مدجّجة بالسلاح وبآليات حربية وعتاد مصمم للاستخدام على الحدود ولمواجهة العدو الإسرائيلي او ارهابيي داعش وجبهة النصرة، لقمع المتظاهرين والمتظاهرات، فبدا مخالفاً لأبسط أصول تعامل السلطة مع المواطنين والمواطنات.
اضف الى ذلك، انه قد يشكل احراجاً لضباط ورتباء وعناصر الجيش المدربين على استخدام كل ما اوتوا به من قوة في مواجهة العدو. فكيف يُطلب من هؤلاء منع اطباء واساتذة جامعيين وطلاب وعمال وفلاحين من ممارسة حقهم بالتظاهر والتعبير؟ وكيف يمكن ان تنال حكومة دياب ووزير الداخلية محمد فهمي ووزيرة العدل ماري كلود نجم ثقة الناس بعد قيام بعض العسكر بضربهم وسبّهم وتهديدهم وتدفيشهم بحجة فتح الطرقات لوصول النواب الى ساحة النجمة؟ الن يشعر الضابط بالخجل من تدفيش امرأة، أم لثلاثة أطفال، كانت تعبّر عن غضبها من فساد الدولة؟ الا يشعر بالعيب بعد استخدام الشدة مع رجل مسن او بعد تهديد طالب جامعي يمارس لأول مرة حقه الدستوري بالتظاهر؟ وماذا عن مستقبل علاقة الشعب بالجيش وبالدولة؟
ان عرض بعض ما بدا جرائم ارتكبها ضباط ورتباء وعناصر قوى الامن يستند الى ملاحظات ومشاهدات وقرائن بالصوت والصورة سجلت طوال اول من يوم امس في محيط مجلس النواب، وتحديداً قرب برج المرّ وفي زقاق البلاط وفي ساحتي الشهداء ورياض الصلح، ومشاهدات ووقائع من الجولات السابقة من استخدام قوى الامن العنف المفرط بحق الناس في عدة اماكن. أما المرجع الذي سننطلق منه فهو ما جاء في مدونة قواعد سلوك عناصر قوى الأمن الداخلي التي صدرت عنها عام 2011، بدعم من مفوضية حقوق الانسان في الامم المتحدة. هذه المدوّنة تهدُف الى تحديد واجبات عنصر قوى الأمن والمعايير القانونية والأخلاقية التي عليها الالتّزام بها أثناء أداء واجباته، كما تنِّظم علاقاته مع الأفراد والمجموعات وكافة السلطات، وتسعى الى ضمان احترام حقوق الإنسان وحماية الحريات العامة وفقاً للدستور اللبناني والمعايير الدولية.
وجاء في المدونة ان عنصر قوى الأمن يجب ان «يلتزم ويتقّيد بها وُيبِّلغ عن أي انتهاك لها، وتّتخذ بحق المخالفين التدابير المسلكية والقانونية المناسبة». فلننتظر قيام وزير الداخلية والبلديات ووزيرة العدل بواجباتهم في هذا السياق ولننتظر استدعاء مدير عام قوى الامن الداخلي وسائر ضباط القيادة الى التحقيق بدل إصرار البعض على الحفاظ على المحميات الطائفية والمذهبية والسياسية بحجج تؤدي الى استمرار خراب البلد وتدمير ما تبقى من امل في المستقبل.
يلتزم عنصر قوى الأمن بحسب المدونة بالموجبات التالية:
الواجب المهني
«يحفظ الأمن والنظام ويحمي الحريات العامة ويسهر على تطبيق القوانين والأنظمة وتأمين الراحة العامة ويحافظ على الممتلكات العامة والخاصة».
ان استمرار قوى الامن باستخدام النهج نفسه المخالف للأصول المهنية في التعامل مع المتظاهرين والمتظاهرات منذ أكثر من ثلاثة أشهر من دون البحث عن نهج أكثر فعالية في حفظ الامن وحماية الحريات العامة وتأمين الراحة العامة والحفاظ على الممتلكات قد يدل الى مكابرة وتعنت أو الى عجز فاضح. فلا يدل الأسلوب العنيف الذي انتهجه بعض ضباط وعناصر قوى الامن من خلال الاعتداء الجماعي على المتظاهرين بسبب قيام قلة قليلة منهم برمي الحجارة على رجال الامن، الى أي نية جدية لتحمل المسؤولية وتطبيق القانون. مع التأكيد ان لدى قوى الامن وسائل مراقبة وكاميرات ومخبرين بإمكانهم تحديد المشاغبين من بين المتظاهرين والتعامل معهم قانونياً بإشراف القضاء المختص.
على عنصر قوى الامن ان «يحترم الكرامة الإنسانية ويصون حقوق الإنسان. يمتنع عن استغلال السلطة ويتقّيد بالقوانين بحيث يكون قدوة للآخرين».
ان قيام بعض عناصر قوى الامن بشتم الناس وتهديدهم والتعامل معهم بقلة احترام وضربهم على وجوههم وشدّ شعرهم ولبطهم ودعسهم لدى وقوعهم ارضاً يدل الى تجاوزات معيبة وفاضحة، وهي مسجلة بالصوت والصورة، وقد بثت التلفزيونات بعضها اثناء النقل المباشر. فكيف يمكن ان يكون عنصر قوى الامن الذي شتم الاعراض وعبّر عن غضبه وجنونه بالعنف والاذلال قدوة لشباب وشابات، طلاب مدارس وجامعات يشاركون للمرة الأولى في مظاهرة؟ كيف يكون قدوة لأي مواطن من مئات المواطنين الذين تعرضوا للضرب والسحل والاختناق المتكرر منذ اكثر من ثلاثة اشهر في الشوارع؟
«يلبي نداءات الاستغاثة وطلبات النجدة بسرعة وفعالية» و«يعمل على تأمين الإسعافات الأولية لجرحى الحوادث الطارئة».
سقط عدد من المتظاهرين ارضاً بعد اختناقهم من كثافة الغاز المسيل للدموع او بعد اصابتهم بالرصاص المطاطي، وقد شوهد بعض عناصر قوى الامن يعتدون بالضرب المبرح على هؤلاء الجرحى. ولم تقدم قوى الامن اسعافات أولية لهم، كما ان ضباطها وعناصرها لم يستجيبوا لنداءات الاستغاثة وطلبات النجدة التي صدرت عن بعض المتظاهرين اثناء تعرضهم للاعتداء من اشخاص حزبيين نقل ان بعضهم مسلحون في منطقة زقاق البلاط.
واجبات الرئيس
«يتوّجب عليه ان يكون القدوة والمثال لمرؤوسيه في التقّيد ببنود المدونة والعمل بروحيتها»، و«ينمّي معلومات مرؤوسيه المهنية ويوجههم للوصول الى أداء أفضل».
وقد شوهد أول من أمس ضابط من قوى الامن الداخلي يصرخ باتجاه أحد العناصر الذين كانوا يطلقون الرصاص المطاطي على المتظاهرين والمتظاهرات. سأله «من اعطاك الامر باستخدام الرصاص المطاطي؟». وبدل ان يتخذ اجراء قانوني ومسلكي فوري بحقه بعد تعذر الجواب، طلب منه ان يعود الى الخلف. ولم تعلن قوى الامن لاحقاً عن فتح أي تحقيق مسلكي. كما ان وزير الداخلية لم يأمر المفتش العام في قوى الامن الداخلي بفتح تحقيق رغم وقوع أكثر من 200 جريح خلال يوم واحد بحسب الصليب الأحمر اللبناني. فكيف يكون الوزير نفسه قدوة للجميع بوجوب احترام القانون قبل أي اعتبار وانتظار نتائج التحقيق، بعد ان قام هو، بنفسه، قبل ان ينال ثقة مجلس النواب، بمنح الغطاء السياسي لمدير عام قوى الامن وحمايته من أي ملاحقة قانونية؟ الا يمكن ان يكون ذلك الغطاء هو ما سمح لتمادي تجاوزات بعض ضباط وعناصر قوى الامن بحق المتظاهرين والمتظاهرات؟
«يراقب أعمال مرؤوسيه ويتأكد من تقّيدهم بهذه المدونة ويتّخذ التدابير المناسبة بحق المخالفين».
ان احدى الوظائف الأساسية لفرع المعلومات في قوى الامن الداخلي هي الامن العسكري ومراقبة أداء الضباط والرتباء والعناصر. فأين كان الأمن العسكري اثناء هجوم اكثر من أربعة عناصر من قوى الامن على متظاهر شاب وضربه بشكل وحشي على مختلف انحاء جسده في وسط بيروت أول من امس؟ لماذا لم يتدخلوا فوراً لوقف هذا التجاوز الواضح للقانون ولمدونة السلوك؟ واذا كانوا غير موجودين في المكان فمن كان الضابط الذي يفترض ان «يراقب» اعمال هؤلاء العناصر؟
السلوك
«يتحّلى بالأخلاق والتهذيب ويتصرف بلياقة وادب مقرونين بالحزم دون غطرسة اثناء ممارسة الوظيفة» و«يقيم أفضل العلاقات مع الآخرين لكسب ثقتهم والتعاون معهم».
بدا واضحاً اول من أمس كما خلال التظاهرات والتحركات الاحتجاجية السابقة ان بعض ضباط قوى الامن فقدوا السيطرة على أعصابهم وأطلقوا الشتائم بحق المتظاهرات والمتظاهرين ورموا الحجارة عليهم وحاولوا اذلالهم وسعوا الى ترهيبهم واخضاعهم للقوة المفرطة. كل ذلك يدل الى نقص حاد في التدريب والاخلاقيات المهنية والى مفهوم خاطئ لوظيفة ضباط وعناصر قوى الامن. فعلى هؤلاء ان يدركوا انهم موظفون لخدمة المواطنين والمواطنات وليسوا سلطة متفلتة لإرهاب الناس بقوة السلاح وتهديد الشباب بالضرب والسحل والاعتقال. ولا يمكن ان تكسب قوى الامن ثقة الناس الا من خلال التعامل الاخلاقي ومن خلال الاحتراف المهني والسيطرة على الاعصاب والانفعالات في اصعب الظروف.
«يمتنع عن القيام بأي عمل من اعمال التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاانسانية أو المهينـة أو التحريـض عليـه أو التغاضي عنه أثناء اجراء التحقيقات أو اثناء تنفيذ المهام الموكلة اليه».
ان سحل الموقوفين وضربهم على وجوههم وسبهم اثناء نقلهم الى أماكن التوقيف التي لا يتناسب وضعها مع ادنى المعايير الانسانية يمكن ان يعد تعذيباً يفترض ان يعاقب المسؤولون عنه قانونياً.
استخدام القوة واستعمال السلاح
«يمتنع عن استخدام القوة إلا في حالة الضرورة بشكل يتناسب مع الوضع وبعد استنفاد كافة الوسائل غير العنفية المتاحة وضمن الحدود اللازمة لأداء الواجب»، و«لا يلجأ الى استعمال السلاح الا في حالات الضرورة القصوى وفقًا للقانون وبشكل يتناسب مع الخطر وبعد استنفاد كافة الوسائل المتاحة».
لم يسع ضباط قوى الامن الداخلي الى استنفاد كافة الوسائل اللاعنفية المتاحة فلم يدعوا المتظاهرين والمتظاهرات الى التفاوض والى التنسيق والتحاور ولم يحاولوا اقناع الناس بتهذيب، بل باشروا بشكل مفاجئ احياناً برمي قنابل الغاز المسيل للدموع وبضرب الناس ودفعهم وشتمهم. وفي بعض الحالات كان بعض ضباط قوى الامن هم من يفتعل المشاكل من خلال التصعيد فيما بدا عكس ما تقتضيه المعايير المهنية. فان السعي لتخفيف الاحتقان والغضب هو أساس العمل الأمني المحترف. والعكس صحيح.
في منطقة برج المر وبينما كان عدد من المحتجين ومن بينهم أطباء وطلاب وعمال يتجمعون سلمياً امام الشارع الذي يصل الى بيت الوسط، امر احد الضباط جميع عناصره بالتأهب وبوضع كمامات الغاز على وجوههم. وعد ذلك تصعيداً لا لزوم له ما استفز المتظاهرين. ولدى الطلب من الضابط التوقف عن التصعيد والتعامل بشكل حضاري مع المتظاهرين السلميين، واجههم بالمكابرة والسلوك السلطوي المتعجرف بدل ان يباشر التفاوض معهم. هذا الضابط كما بعض من زملائه يتصرف وكأن في لبنان ديكتاتورية بوليسية. فهل في أروقة مؤسسة قوى الامن من يساهم في تشجيعه على المكابرة؟