كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
كل المؤشرات تدلّ الى أنّ الرئيس سعد الحريري يتعامل مع مناسبة اغتيال الشهيد رفيق الحريري، بكونها محطة تأسيسة جديدة لتيار «المستقبل».
ينتظر الجميع كلمة الحريري السياسية التي سيحدد من خلالها مواقفه من القوى السياسية وفي طليعتها العهد والتسوية الرئاسية، وسيرسم رؤيته للمرحلة المقبلة وطنياً ربطاً بالملفات والاستحقاقات السياسية. ولكن على رغم أهمية هذه الكلمة التي يفترض أن تشكّل بمحاورها خريطة طريق «المستقبل» للمرحلة المقبلة، إلّا انّ الأهم يبقى في الخطوات التي ستلي هذه المحطة ويمكن أن يلجأ إليها الحريري، والتي قد تندرج ضمن 4 عناوين – تحديات أساسية:
– التحدي الأول، تيار «المستقبل»: يفترض أن يكون هذا العنوان في طليعة اهتمام الحريري، لأنّ قوته الأساسية متأتية من تياره، إذ بمقدار ما ينجح في الحفاظ على تمثيله المتقدِّم لبيئته بمقدار ما يبقى في صلب القرار الوطني، وبمقدار ما يتراجع وزنه الشعبي بمقدار ما يتراجع دوره وتأثيره، وهذه القاعدة تنطبق على الجميع، فلا دور فعلياً من دون وزن حقيقي.
وما يجدر ذكره انّ البيئة السنية لا ترى نفسها تاريخياً مشدودة في اتجاه الأحزاب والعمل الحزبي بسبب تركيبتها المجتمعية التاريخية بكونها الأكثرية المندمجة بواقعها ضمن الأمة الإسلامية، وبالتالي لا تجد من حاجة للانتظام خارج إطار الدولة – الأمة. وبمعزل عن بعض التجارب الحزبية المتواضعة التي عرفها لبنان، فإنّ تيار «المستقبل» يعدّ التجربة الأولى من نوعها بحجمها وامتدادها وتأثيرها وقوتها.
وخلافاً للانطباع الذي ساد لفترة طويلة من انّ الركيزة الأساسية لهذا التيار هي المال والسلطة، وانه بمجرد ان يتراجع وضعه المالي يتراجع تلقائيّاً وزنه الشعبي، فإنّ السنوات الأخيرة التي شهد فيها «المستقبل» صعوبات مالية وسياسية وصلت إلى حد إقفال مؤسساته ومكاتبه أظهرت وجود عصبية سياسية فعلية لدى محازبيه الذين يُبدّون الاعتبار السياسي على اي اعتبار آخر، وقد نجح التيار في الحفاظ على تمثيل نيابي مرموق داخل بيئته على رغم غياب العامل التنظيمي وفي ظل ظروف سياسية صعبة وتتعلق بتحالفه مع الوزير جبران باسيل الذي لم ينجح في العبور إلى قلوب السنّة في لبنان.
ومن هذا المنطلق يفترض أن يضع الحريري كأولوية الاهتمام بتيار «المستقبل» تنظيمياً وسياسياً في اعتباره مصدر قوته الوطنية الأساسية، والتحضير للانتخابات المقبلة أكانت فرعية أم عامّة من أجل الحفاظ على تمثيله وتوسيع هذا التمثيل.
– التحدي الثاني، التسوية السياسية: تصدّر مفهوم التسويات لدى الحريرية السياسية على كل شيء آخر، والسعي إلى التسويات لا يشكل انتقاصاً بل يدخل في صميم اللبننة القائمة على منطق التسوية، ولكن المأخذ على الحريري من داخل بيئته وخارجها انه يسعى إلى التسوية بأيّ ثمن، فيما التسوية يجب ان تكون متوازنة لكي يكون لها طابع العدالة والديمومة.
ونيّات الحريري في السعي إلى التسويات واضحة، وهي الحفاظ على الاستقرار الذي يعلو بالنسبة إليه على أي شيء آخر، ولكن عندما تتحوّل التسوية إلى تنازل تفقد جوهرها وقيمتها وأبعادها ومراميها، كما يفترض أي تسوية ان تشكّل مصلحة متوازنة للطرفين، وفي حال العكس يمكن تسميتها أي شيء إلّا تسوية.
ومن الخطأ الاعتبار انّ الطرف الآخر لا يبحث عن تسوية، وفي حال لم يكن فعلاً في هذا الوارد يجب مواجهته بالمنطق نفسه، لأنه من دون توازن لا عدالة ولا مساواة ولا حكم يكون سليماً، خصوصاً انّ أحداً لا يتحدث عن نزع سلاح «حزب الله» بالقوة كونه مسألة غير مطروحة وغير ممكنة، ولكن ما كان ممكناً، ربطاً بحاجة الحزب الى الاستقرار السياسي والاقتصادي بغية ترييح بيئته والتفرّغ لأدواره الخارجية، اللجوء إلى ربط نزاع حقيقي معه قوامه المعادلة الآتية: تعليق النقاش في السلاح وربطه بالتسوية الإقليمية من أجل التفرّغ للوضع المالي الذي انفجر أخيراً، يجب أن يقابله تشدّد في سياسة «النأي بالنفس» وعلاقات لبنان الخارجية وعدم التفرّد بأي قرار أو موقف يَرتدّ سلباً على لبنان، الأمر الذي لم يكن قائماً، بل كانت البراغماتية المفرطة هي الطاغية على هذا المستوى.
ولا يجب الاستهانة بهذا الجانب لأنه كان كفيلاً بتغيير المشهد السياسي من الثقة الخارجية المفقودة بلبنان إلى التوازنات الداخلية التي اختَلّت بفِعل تسويات من هذا النوع وآخرها التسوية الرئاسية، إذ على رغم الحاجة الوطنية الى سَد الفراغ الرئاسي، ولكن لو تمّ التمسّك بترشيح الدكتور سمير جعجع لكان سيؤدي هذا التمسّك عاجلاً أم آجلاً إلى انتخاب رئيس توافقي.
– التحدي الثالث، التحالفات السياسية: تشكل التحالفات أو التقاطعات مصدر قوة لكل فريق سياسي، ولكن أي تحالف أو تقاطع يجب ان يكون منسجماً مع الخط السياسي العريض لكل طرف، ويشكّل خروج «المستقبل» من السلطة وافتراقه عن العهد و»التيار الوطني الحر» مناسبة لإعادة ترميم جسور علاقاته الاستراتيجية والتكتية التي مَكّنته وتمكّنه من الحفاظ على دوره الوطني الطليعي.
وعلى رغم من أنّ الحريري كسائر القوى السياسية يولي الاهتمام بالناس المنتفِضة في الشارع منذ 17 تشرين الأول ومحاولة استقطابها، إلّا انّ هذا لا يمنع من إعادة تحديد علاقاته السياسية ضمن 3 دوائر: العلاقة الاستراتيجية، العلاقة الظرفية والعلاقة الخلافية ضمن ربط نزاع حقيقي، ومع الأخذ في الاعتبار أنّ أي علاقة إذا لم تكن متوازنة وقائمة على الفهم والتفهّم تفقد قوتها واستمراريتها.
– التحدي الرابع، الهدف السياسي: يمكن أن يكون الهدف معلناً أو مضمراً، إنما على الحريري أن يحدد أهدافه للمرحلة المقبلة والتي تبدأ من تعزيز وضع تياره كأولوية مطلقة، ولا تنتهي بتعزيز الخط الوطني الذي هو في صلبه والذي يستدعي إعادة الحرارة إلى الخطوط السياسية من دون ان يعني العودة إلى جبهات قديمة، خصوصاً انّ المنطقة تتحوّل وانّ اللبنانيين يريدون «العبور إلى الدولة».
وإذا كان اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005 قد شكّل محطة تأسيسية لمرحلة وطنية جديدة عُرِفَت بالاستقلال الثاني، فهل ذكرى 14 شباط 2020 ستشكل بدورها محطة تأسيسية لمرحلة وطنية جديدة؟