كتب الدكتور سعيد شعيا في صحيفة “الجمهورية”:
إذا كان للثورة باب فأنت الباب والمفتاح، وإذا كان للثورة عنوان فأنت أحق عنوان يعطى لها. سنة مرّت على رحيلك وانت الحاضر الدائم في عقول كل إنسان حرّ في لبنان والعالم.
لم أعرفك ولم ألتقِ بك ولكن الفعل الأبيّ الذي قمت به دوّى في أصقاع الدنيا فهزّ الجميع ولم يهتز عرش أرباب الفساد في لبنان على ما قاموا به تجاهك. ضاق صدري وضاقت باريس فيّ ولم أصدق بأنهم أوصلوك الى الهاوية، وامتلأ قلبي حسرة ولوعة على انعدام الضمير في بلد العجائب فانهارت القيَم وفقد الانسان إنسانيته في وضح النهار ولم يحرّك أحدهم ساكناً.
لا أستذكرك فقط اليوم في 8 شباط لأنك أصلاً لم تغب عن البال يوماً ولم يغب فعلك النهائي بعمقه ومعانيه عن نظري، في وقت طوى اللبنانيون بمشاكلهم وهمومهم كل ما هو بعيد عنهم فأصبح البعيد غريباً والغريب بعيداً. فنكران الواقع وتجاهله صفات تميّز بها اللبنانيون حتى تعلموا التأقلم مع الفساد والذل.
لقد كنت فاتحة للثوار معلناً بأنّ الحياة الكريمة حق لا لُبس فيه ولا نقاش عليه. لقد فضّلت الرحيل واقفاً بعزة وشهامة في وجه من أراد إذلالك وإذلال لبنان كلّه عبرك، فثورتك ثورة على اولاد الافاعي التي تربّصت بلبنان وقدراته، وثورة على الفاسدين والمفسدين الذين لم يعرفوا حدوداً ولا حداً يتوقّفون عنده، وثورة على المتستّرين بالدين وهم لا دين لهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فدينهم دنانيرهم ولا يعرفون إلّا عبادة المال.
لعلك ظننت بأنّ الطائفة ملجأ يُلتجأ اليه عندما تشتد الازمات، وكتف متّكئ عليه عند الحاجة القصوى، فعلمت بأنّ الطائفة حرقت لبنان بأكمله قبل أن تحرقك. والطائفية أنهت آمال اللبنانيين كمال آمالك. فعرفت حينها بأنّ الخلاص لا يكون إلّا عبر «لبنان الوطن» وحده لا غيره لا شريك له، وبأنّ الطائفة هلاك لبنان ولا ملجأ ولا كتف لأيّ مواطن في وقت الشدة إلّا وطنه الذي يعلو ولا يُعلى عليه ابداً، فالعزة في لبنان والكرامة فيه لا في غيره.
لقد أنرت الدرب بنورك المضيء فبان الحق المبان لمَن لديه عينين ليرى، وظهرت الحقيقة لمن لديه العقل ليعقلها.
جورج زريق أحرقت نفسك في باحة مدرسة الطغيان، أولئك الذين تَستروا بثياب العفة والتَحوا بالفضيلة وهم بالحقيقة ليسوا إلا طواغيت ضالين ظالمين. لقد قتلوا الامل في نفسك وقتلوا حق اولادك بالتعليم الاساسي، فهل بات التعليم ليس إلا قضية تجارية تبتغي الربح؟ ألم يفقهوا ما قاله لهم مَن ثار على تجّار الهيكل أمثالهم قبل الفي عام «ماذا ينفع الانسان ان يربح العالم كله ويخسر نفسه؟» ماذا تنفع الثروات عندما نخسر خيرة أبناء شعبنا ونخسر أولادنا ونخسر وطننا؟
لكنّ هؤلاء لا يفكرون لا في وطن ولا في مواطنة ولا في مواطنين، فَهمّهم تكديس الاموال حتى أتى وقت لا تنفعهم فيه لا أموال ولا ثروات.
فسبحان الحق الذي يعلو فوق الخلق أجمعين. مَن سرقوا حياة جورج زريق في كورة لبنان أتى الزمن الذي فيه يسرق السارق وما استحصل عليه بغير وَجه حق. فها هي المصارف تضع يدها على الاموال وسيتبخر الصالح منها والطالح سواسية، فالسارق يسرق من دون علمه وسارق الحياة ينال جَزاءه عاجلاً ام آجلاً لأنّ الحق لا يموت ما دام وراءه مطالب. سيطالب كل لبناني بإحقاق الحق مهما طال الزمان لأنّ الفاسد لا مكان له بعد الآن في لبنان، وإذا بقي الفساد والمفسدون والفاسدون فلا بقاء للبنان بأي شكل من الاشكال. فنسأل اليوم، ما نفع الاموال التي لا تبني وطناً ولا تنشئ مواطناً ولا تعزّز المواطنية ولا تثبت الانسان عزيزاً كريماً في أرضه.
لقد ظنّ الكثيرون بأنهم ربحوا ولم يعرفوا بأن لا ربح لأحد، أينما كان ومهما كان، اذا خسرنا لبنان فالكل خاسرون
فالربح الشخصي مسألة ظرفية لا تدوم مهما علا، وجار، واستبدّ أي إنسان. فما يجب ان نسعى إليه كلنا ولو خسرنا البعض القليل او حتى لو خسرنا الكثير هو ان يربح ويعلو مفهوم لبنان الدولة المواطنية والقانون على الطائفة التي هدّمت الوطن، فهل من يفهم ذلك في لبنان؟
كثرت مصائب اللبنانيين وعظمت، والآتي أعظم بكثير، فتناسوا كل قضية وكل حق. وعلى قاعدة (بعيدة عنّي بسيطة) نَخر الفساد كل شبر وكل معقل وكل مضجع، فباتَ الحريق في كل مكان ولم يعد اي شيء بعيد أكثر من بعد المواطن عن الوطن.
فهلمّوا جميعاً تاركين ثياب الطائفية البالية التي أهلكتكم وتركتكم وحدكم في وقت الضيق. وانظروا أمامكم – نصب أعينكم – الى الوطن الذي لا يترك مواطناً لا في مهب رياح الهجرة ولا على قارعة الطريق ولا مُجبراً على الموت في حريق، فلنعمل جميعاً في سبيل الوطن، هذا الذي يحضننا جميعاً نافحاً فينا روح الحرية والأخوّة والمساواة في المواطنة.