Site icon IMLebanon

“الحريرية السياسية”… النكسات المتلاحقة

كتبت ألان سركيس في “نداء الوطن”:

14 شباط 2005، وقع زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حدث قلب موازين القوى الداخلية والإقليمية، ولا تزال المنطقة تعيش تردداته، معه دخلت البلاد مرحلة سياسية وأمنية جديدة، وخرج المحتلّ السوري على دماء الحريري، وتحرّر الوطن من أبشع احتلال مرّ في تاريخه المعاصر إلى جانب الاحتلال الإسرائيلي.

رحل الحريري، والفوضى تعمّ البلاد على وقع التفجيرات المتنقلة التي استهدفت قادة “14 آذار” والأحياء السكنية، يومها طُرح السؤال الكبير، من سيخلف رفيق الحريري، الرجل الإستثنائي صاحب العلاقات الدولية الواسعة؟

يوم التشييع، هتفت جماهير “المستقبل” وأنصار الحريري “بالروح بالدم نفديك يا بهاء”، ليتفاجأ الجميع بعد أسابيع قليلة، وأثناء حصر الإرث المالي والسياسي، أن العائلة اختارت سعد الدين لإكمال مشوار والده السياسي وليس بهاء، ومعه انطلقت مرحلة جديدة من تاريخ “الحريرية السياسية”. صحيح أن الرئيس سعد الحريري ورث علاقات محلية وإقليمية ودولية واسعة، وتعاطفاً شعبياً لم يحصده حتّى الرئيس الشهيد، إلا أنه ورث أيضاً مشاكل بلد تكاد لا تنتهي، ووضعية سياسية مهتزّة، وصراعاً سنّياً – شيعياً متفجّراً في كل أنحاء المنطقة.

 

مرّ قطوع انتخابات 2005 وبات الحريري زعيم الغالبية النيابية التي لم يُقدّر لها أن تحكم بفعل نفوذ “حزب الله” والتركيبة الداخلية المعقّدة، وظن الجميع أن الحريري سيتولى رئاسة الحكومة، لكنّ خبرته السياسية غير الكافية آنذاك جعلت الخيار يقع على وزير المال السابق فؤاد السنيورة.

وعلى رغم حصول قوى “14 آذار” على الغالبية أيضاً في مجلس الوزراء، إلا أن حرب تموز 2006 التي اندلعت بين “حزب الله” وإسرائيل قلبت المعادلات الداخلية، وباتت “الحريرية السياسية” في مرحلة دفاع بعدما كانت في موقع الهجوم، خصوصاً بعد انسحاب الوزراء الشيعة من حكومة السنيورة واعتبارهم أنها غير ميثاقية والمطالبة بنيل الثلث المعطّل.

أكثر من سنة ونصف السنة من المواجهات المتفجّرة في الشارع بين 8 و14 آذار، و”الحريرية السياسية” تقاوم من أجل البقاء في السلطة التنفيذية على رغم الفراغ الرئاسي بعد انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود وعدم الإتفاق على بديل.

يؤكّد من تابع تلك الفترة أن الضربة الأولى التي تلقتها “الحريرية السياسية” كانت في 7 أيار 2008، يومها نزل “حزب الله” بسلاحه إلى بيروت قالباً اللعبة رأساً على عقب، فالعاصمة التي كانت قلعة الحريرية سقطت بيد “حزب الله”، وتهجّر نواب “المستقبل” وكوادره من العاصمة، وتمّ تطويق “قصر قريطم” وكليمنصو، من ثمّ هاجم الجبل، ما دفع الحريري ورئيس الحزب “التقدمي الإشتراكي” وليد جنبلاط وقوى “14 آذار” للذهاب إلى مؤتمر “الدوحة” مهزومين.

وفي عملية نقد ذاتي لتلك المرحلة، يشير عدد من كوادر “التيار الأزرق” الذين عايشوا تلك المرحلة أنه في مرحلة 7 أيار وما سبقها، تمّ الوقوع في أخطاء عدّة أبرزها الإنجرار إلى لعبة “حزب الله” العسكرية، إذ إن بعض المتحمسين كانوا مع قرار المواجهة العسكرية، وهذا الأمر لم يكن خيار الحريري، خصوصاً أن “الحزب” أقوى في لعبة السلاح من الجميع.

أما الخطأ الثاني الذي وقع به “المستقبل” و”14 آذار” هو عدم تقدير ردّ فعل “حزب الله” عندما تمّ المس بشبكة إتصالاته، وبالتالي فإن هذه القوى ظنت أن “الحزب” لا يدخل في مواجهة عسكرية، لكن الصدمة كانت أنه فعلها، ومن جهة أخرى، فإن كل الدعم الإقليمي والدولي، لم يترجم على أرض الواقع، فاستباح “الحزب” بيروت والجبل وفُرض واقع سياسي جديد.

مرة جديدة، تأتي الفرصة للرئيس الحريري للدخول إلى السراي لكنه يفضل أن يكمل السنيورة المشوار، وذلك بعد اتفاق “الدوحة” وحصول “8 آذار” والحلفاء على الثلث المعطّل، إلى أن أتت الإنتخابات النيابية العام 2009 وفازت “14 آذار” مجدداً بالغالبية النيابية، لكن المفاجأة، بعد الفوز، كانت بإعلان الحريري من بيت الوسط الذهاب إلى حكومة وحدة وطنية.

رئاسة للمرة الأولى

من يقرأ في تاريخ “الحريرية السياسية” يكتشف أن النكسة الثانية لها بعد 2005 كانت بعد تولي الحريري رئاسة حكومة العام 2009 بثلث معطّل مبطّن، يومها بدأ “التمرجح” بالرئيس الشاب، وتفجرت الألغام بدرب حكومته وأبرزها كان قضية شهود الزور وزيارته الرئيس بشار الأسد بناء على معادلة “س – س”.

وأتت الضربة الأقسى عندما كان الحريري يزور الرئيس باراك أوباما في كانون الثاني 2011 في البيت الأبيض، عندما أعلن وزراء “التيار الوطني الحر” و”8 آذار” إستقالتهم من الرابية ليتبعهم الوزير الملك عدنان السيد حسين، وبالتالي تمّ إخراج الحريري من السراي، في حين أن رئيس تكتل “التغيير والإصلاح” النائب ميشال عون قال إنه قطع للحريري “one way ticket”. كان يوم الأحد 13 آذار 2011 المهرجان الشعبي الأخير لقوى “14 آذار”، يومها خلع الحريري “الجاكيت” وأطلق معركته في التصدّي للسلاح غير الشرعي لكنه اختار بعدها مغادرة لبنان طوعاً.

يشير مستقبليون إلى أن مسلسل التراجع الشعبي بدأ من وقتها، فابتعاد الحريري أثّر على القاعدة وباتت القيادة الحريرية برؤوس كثيرة، كذلك سطع نجم الجماعات الإسلامية بعد اندلاع الأزمة السورية والتي استهوت بعض أهل السنّة الذين رأوا فيها قوة قادرة على مواجهة تمدد “حزب الله” وسط تراخي “المستقبل”، كما أن الأخير قوة تعوّدت ألا تعيش خارج السلطة، وخروج “التيار” منها سيؤثّر حكماً على شعبيته.

التسوية والعودة

مهّدت حكومة الرئيس تمام سلام التي أبصرت النور في شباط 2013 لعودة الحريرية إلى الحكم، وعلى رغم محاولة الحريري إنتخاب رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، إلا أن معادلة إنتخاب عون كانت أقوى فسار بها ضمن ما بات يعرف بالتسوية الرئاسية، وطبعت المرحلة بثنائية الحريري – باسيل التي أزعجت الحلفاء قبل الخصوم. وعلى طريق النكسات التي تعرّضت لها الحريرية السياسية، كانت الضربة الكبرى في 4 تشرين الأول 2017 حيث قدّم الحريري استقالته من الرياض عبر قناة “العربية”، ما وضع السياسيين أمام صدمة كبرى.

لحظات عصيبة مرّت قبل أن يعود الحريري عن استقالته في 22 تشرين الثاني ويشارك في عرض الإستقلال ويكمل في التسوية الرئاسية، في حين أن استكمال مسلسل النكسات كان بعد اندلاع ثورة 17 تشرين حيث كانت مرحلة خروج الحريري من السراي برضاه وتلبية لمطالب الشعب.

في مراجعة لكل ما حصل، وفي عملية نقد مستقبلي ذاتي، يكتشف “المستقبل” أن عوامل الضعف كانت داخلية، خصوصاً أن الحريري اتّكل على الموجة الشعبية ولم يعمل جدياً على كودرة تياره، في حين أن سياسة التخلص من الصقور أدّت إلى ضعف “التيار الأزرق” في المواجهة، وسط الرهان على استمرار التسوية طوال فترة حكم عون.

وبات الحريري من دون حلفاء، وعلاقته مع الشخصيات التي شكّلت نواة “14 آذار” شبه مقطوعة، في حين أن العلاقات مع “القوات” في أسوأ مراحلها خصوصاً بعد عدم تسميته لرئاسة الحكومة أخيراً، والوضع مع جنبلاط هو “هبة باردة هبة ساخنة”. وقد وقع “المستقبل” في فخّ الرهانات الخارجية الخاطئة، وظن أن سقوط النظام السوري كفيل بتبديل المعادلات الداخلية، لكن النظام لم يسقط واستعاد عافيته بفعل الدعم الروسي.

أما النكسة الأكبر فكانت غياب الدعم السعودي الواضح لـ”الحريرية السياسية” بعد التسوية الرئاسيّة، فالمملكة هي الرئة التي يتنفس منها “التيار”، ولا أحد ينسى علاقة الرئيس الشهيد بها. وأمام كل هذه النكسات يبقى السؤال هل ستعود “الحريرية السياسية” إلى سابق عهدها أو أنها ذاهبة نحو الأفول؟