كتب عمر نشابة في صحيفة “الأخبار”:
شهد الأسبوع الفائت تغييراً في تعامل بعض ضباط قوى الأمن الداخلي وعناصرها مع المتظاهرين والمتظاهرات، إذ بدت محاولة تجنب الصدام واضحة على عكس ما يحصل منذ 17 تشرين الأول 2019. فهل يدل ذلك على نهج جديد؟ وهل يمكن التأمل بأن وزارة الداخلية ستحيل الضباط والعناصر المسؤولين عن قلع عيون الشباب وضرب وسحل وركل وإهانة الناس الغاضبين الذين يطالبون بحقوقهم، الى التحقيق والمحاسبة؟
تظاهرت مجموعة كبيرة من المواطنين والمواطنات، الأسبوع الفائت ويوم أول من أمس، أمام وزارة الداخلية والبلديات في منطقة الصنائع، رافعين شعارات مناوئة لحكومة الرئيس حسان دياب وضد العنف المفرط الذي تنتهجه قوى الأمن الداخلي بحقهم وضد سياسات مصرف لبنان وجمعية المصارف التي تحتجز أموال الناس. وبالرغم من الهتافات التي كان بعضها عالي النبرة، وبالرغم من اقتراب المتظاهرين من مدخل الوزارة وتسلق بعض الشبان الأشجار المحيطة لرفع الصوت، وتهجّمهم على وزير الداخلية العميد محمد فهمي شخصياً، لم يحصل احتكاك مع القوى الأمنية والعسكرية. وبدا أن أوامر وزير الداخلية للعناصر المكلفين بحماية الوزارة كانت إغلاق البوابة الحديدية والتراجع الى داخل الوزارة وعدم التفاعل مع المتظاهرين وعدم استدعاء قوة مكافحة الشغب في قوى الأمن الداخلي، والاستعاضة عنها بقوة من الجيش اللبناني وإبقاءها على مسافة بعيدة من التظاهرة. ومن الناحية المهنية بدا ذلك تطوراً وتغييراً لافتاً في المنهجية التي كانت معتمدة، والتي تبين – من خلال مراقبة التظاهرات منذ 17 تشرين الأول 2019 – أنها تفتقر الى مهارات نزع فتيل التصعيد. ففي كثير من المحطات بدا بعض ضباط قوى الأمن وعناصرها هم الذين يبادرون الى التصعيد ويشعلون فتيل التوتر من خلال استعراضات التخويف والترهيب ومن خلال استدعاء القوة الضاربة والقوات الخاصة و»الكوماندوس» لمواجهة الناس العزّل. وبعض الضباط أفصحوا عن ذلك خلال أحاديث جانبية مع كاتب هذه السطور، إذ إنهم قالوا صراحة إن عليهم «الحفاظ على هيبة الدولة وهيبة رجل الأمن»، وذلك من خلال «عرض القوة لتخويف كل من يفكر في الاعتداء علينا». هذه المقاربة التقليدية المتخلفة، التي تتناسب على ما يبدو مع النهج العنيف الذي يعتمده المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء عماد عثمان وبعض الضباط المقرّبين منه والمحيطين به، أثبتت عدم جدواها، لا بل أثبتت أنها تزيد من تأزم الأمور وتفاقمها، ما يؤدي الى سقوط مئات الجرحى في صفوف المواطنين وفي صفوف قوى الأمن، إذ يبدو سلوك اللواء عثمان السلطوي العنيف وتعبيرات وجهه القاسية خلال مخاطبته المواطنين والإعلاميين والصحافيين لا يخدمان المؤسسة ولا يساعدان على تخفيف التوتر وتقريب المؤسسة من الناس، بل العكس.
إن القاعدة المهنية التي يمكن أن يكون ضباط قوى الأمن وعناصرها قد تعرّفوا إليها أثناء التدريبات التي خضعوا لها، أساسها تخفيف التوتر وعدم استخدام مظاهر القوة في مواجهة المتظاهرين السلميين. فمثلاً، لا يجوز أن يرفع عناصر قوى الأمن الهراوات والدروع وارتداء كمامات الحماية من الغاز المسيل للدموع بوجه تجمع من الناس الذين لا يحملون أي سلاح ولا يقومون برمي قوى الأمن بالحجارة وعبوات المياه أو العصي. ولا يجوز لهم التعامل بعنف ومخاطبة المتظاهرين والمتظاهرات بقلة احترام وبطريقة عدائية كما حصل، إذ كان الضباط والعناصر يبادرون إلى التعامل السلطوي العنيف مع الناس قبل حصول أي احتكاك عنيف. ولا شك في أن أي تأهب عسكري لقوى الأمن في وجه المتظاهرين السلميين يوتر الأجواء ويوصل رسالة عداء وكراهية، ما يزيد من غضب الناس، وهو ما قد يؤدي الى انفجار العنف والصدام مع القوى الأمنية. أما إذا قام أحد المتظاهرين برمي الحجارة، فعلى قوى الأمن التعامل معه بمهنية واحتراف، لا أن يعتدوا بالضرب وبشكل جماعي وهمجي على المتظاهرين والمتظاهرات وسبّهم وسحلهم وركلهم وإهانتهم في الشارع، كما حصل بشكل متكرر منذ تشرين الاول 2019.
إن سلوك الضباط والعناصر المكلفين بحماية وزارة الداخلية، يوم أول من أمس، يشير الى تطور واعد في التعامل مع المتظاهرين والمتظاهرات، كما أن تحرك الجيش والامن الداخلي لحماية تظاهرة تعرضت للرشق بالحجارة خلال اليوم نفسه في منطقة خندق الغميق يدل على نهج يختلف عن النهج الذي كانت تعتمده الوزيرة ريا الحسن، والذي عبّرت عنه بوضوح من خلال قولها لمحطة «سي أن أن» إن «الأمور السيئة تحدث»، وكأنها معفاة من مسؤولية حماية الناس.
وإن أي تقييم موضوعي لأداء قوى الأمن لا يكون من خلال نجاحها في فتح طريق بالقوة أو توصيل نائب الى مجلس النواب أو اعتقال شاب رمى حجراً تعبيراً عن غضبه، ولا يكون من خلال سبّ وتدفيش وضرب طلاب وأساتذة جامعات وعمال وأطباء وفلاحين يطالبون بحقوقهم، فهذا يضع الدولة في مواجهة جزء من شعبها، ويجعلها تظهر بشكل وحش كاسر يفرض سلطته بالسلاح والترهيب والضرب لا بقوة القانون والخدمة المحترفة.
أي تأهّب عسكري لقوى الأمن بوجه المتظاهرين السلميين يوتّر الأجواء ويوصل رسالة عداء وكراهية ما يزيد من غضب الناس
ولم نسمع حتى الآن بفتح أي تحقيق مسلكي وقضائي وبتوقيف الضباط والرتباء والعناصر الذين اعتدوا على الناس، بما في ذلك الصحافيون، خلال الأشهر الثلاثة الماضية. فهل ستعلن وزارة الداخلية عن ذلك تطبيقاً للقانون فوق كل اعتبار آخر، أم ان المعالجة السياسية التي يعتمدها الوزير فهمي تتعارض مع المعالجة القانونية؟
يقع مكتب المفتش العام لقوى الأمن الداخلي والضباط المعاونين له على بعد أمتار قليلة من مكتب الوزير فهمي، ويمكنه استدعاؤه وتوجيهه بفتح تحقيق مسلكي في أي شكوى، فهل فعل ذلك؟
وألا يكون مجدياً تكليف دوريات تفتيش ودوريات لجهاز الأمن العسكري بمراقبة كيفية تعامل ضباط قوى الأمن ورتبائها وعناصرها مع المواطنين والمواطنات خلال التظاهرات الشعبية الغاضبة، ورصد أي تجاوزات، تمهيداً لاتخاذ الإجراءات المسلكية والقانونية بحق المخالفين؟
قد يشهد لبنان في الأسابيع والأشهر المقبلة تصاعداً في حدة الغضب الشعبي؛ ومع ارتفاع نسب البطالة ومعدلات الفقر والحرمان قد تزيد وتيرة العنف. لذا، لا بد أن تتأهب المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي من خلال التشدد في احترام القانون والأخلاق من قبل جميع عناصرها، لا من خلال استقدام مزيد من قنابل الغاز والهراوات وأدوات القمع والعنف. فالاحترام والانضباط هما أساس العمل المهني والاحتراف.
واجب تحييد قوى الأمن عن جميع الأطراف السياسية
خلال الأيام الفائتة، تمّ تجاوز قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي الذي يحظر حضور ضباط وعناصر قوى الأمن ومشاركتهم في أي اجتماع سياسي (المادة 160 من القانون 17/1990)، لكن لم يتّخذ أي إجراء بحق المخالفين بل أفادت وزارة الداخلية بأن هؤلاء الضباط كانوا قد حصلوا على إذن مسبق للمشاركة في «مناسبة وطنية». إن أساس الأسباب الموجبة التي اعتمدها المشرّع اللبناني لدى وضعه قانون تنظيم قوى الأمن الداخلي هو إبعادها عن أي انحياز سياسي أو فئوي، ولحماية ضباطها وعناصرها من أي تأثير أو ضغط أو تعاطف مع فريق ضد فريق آخر. وبالتالي عدّ القانون أي مشاركة أو حضور للضباط لاجتماع سياسي من المحظورات.
إن حضور ضباط اجتماعاً سياسياً حزبياً في بيت الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، وحضور ضباط خطاباً سياسياً للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، في صفوف الجماهير، فهو من دون أي شك مخالف للقانون ولا يفترض أن يتكرر إذا كانت هذه الحكومة تحرص فعلاً على عمل المؤسسات وعلى منع انحياز الضباط لجهات سياسية.
وصحيح أن النفوذ في وحدات قوى الأمن موزع بالمحاصصة على القوى السياسية والطائفية، غير أن بإمكان الوزير فهمي جمع مجلس القيادة وتوجيه العمداء قادة الوحدات بالانصياع فقط لما يقتضيه القانون الذي ينصّ بوضوح على إخضاع المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي لسلطة وزير الداخلية. ولا بدّ من تجاوز الوضع الذي كان قائماً أيام الوزيرة الحسن حين كان اللواء عماد عثمان، على ما بدا، يتجاوز سلطتها من خلال انصياعه مباشرة لتوجيهات رئيس الحكومة من دون احترام تسلسل السلطات.