كتبت رلى إبراهيم في “الاخبار”:
حتى زمن قريب، كان رؤساء بلديات المتن الشمالي الموالين للنائب ميشال المر، أباطرة مطلقي الأيدي في بلداتهم. فجأة، تبدّلت الأحوال، أفل النفوذ المرّي مع عودة التيار الوطني الحر إلى السلطة، وانهار الهيكل فوق رؤوس «الريّاس». بعد بصاليم وسنّ الفيل، وقع رئيس بلدية أنطلياس إيلي أبو جودة في قبضة القضاء.
لم يعد لرؤساء البلديات، في المتن الشمالي أقلّه، خيمة فوق رؤوسهم. تتساقط الحصانات عنهم الواحدة تلو الأخرى، من سن الفيل الى المروج وبصاليم لتصل أخيراً الى أنطلياس. كان يفترض بأن يمنح الإذن بملاحقة رئيس بلدية أنطلياس إيلي فرحات أبو جودة منذ بداية عام 2017، بعدما قدّم أحد أبناء البلدة ويدعى بنوا الشمالي شكوى تتضمّن إخباراً موثّقاً حول هدر المال العام: 1- عن طريق تأجير واستثمار أملاك عامة بلدية لمصلحته ومنفعته الشخصية. 2- إعطاء إفادات كاذبة تزويراً للحقيقة. 3- التعدّي على الأملاك العامة النهرية والطرق العامة. إلا أن حفظ وزارة الداخلية منذ ثلاثة أعوام (عهدَي نهاد المشنوق وريّا الحسن) طلب الإحالة، رغم مراجعات النيابة العامة المالية وكتاب التفتيش المركزي وقائمام المتن والهيئة التأديبية الخاصة برؤساء البلديات، أخّر بتّ الملاحقة. بدا الأمر كأنه محاولة لـ«تنويم» الملف وحفظه، فما كان من النائب العام المالي الا القفز فوق الإجراءات الروتينية طالباً من النيابة العامة التمييزية الترخيص بملاحقة رئيس بلدية أنطلياس ــــ النقاش. وصل الملف الى النائب العام التمييزي الذي اطّلع على كتاب النيابة العامة المالية والمحامي العام التمييزي، وأصدر قراراً بالترخيص للنيابة العامة المالية بملاحقة أبو جودة تبعاً للدعوى المقامة لدى القاضي المنفرد الجزائي في الجديدة.
ليس رئيس بلدية أنطلياس مجرد رئيس بلدية عادي. الأخير حفظ إرث والده جيّداً، ليخلفه كأحد أبرز أذرع النائب ميشال المر في معظم معاركه البلدية والانتخابية منذ 16 عاماً. أن تكون أحد رجال إمبراطورية المرّ، يعني أن تمسك بكل مفاصل البلدة: من رخص البناء، الى الكسارات، الى الأملاك العامة، الى محطات الوقود وكل ما هنالك، بحماية من العرّاب بالطبع. برع أبو جودة في هذه المهمة، وحاز دعم الأب (ميشال المر) والابنة (ميرنا المر) والابن (الياس المر). فبدأت ملفات هدر الأموال والتلاعب بالتخطيطات والتعدّي على الأملاك العامة والنهرية يتكدس الواحد منها تلو الآخر. وبحسب تقرير الخبير المعيّن من النيابة العامة المالية بناءً على الشكوى الأصلية والمستندات المرفقة بها، أن الرهبنة الباسيلية الحلبية للروم الكاثوليك المالكة للعقار 551 من منطقة أنطلياس أجرت عقد استثمار لمصلحة ميلاد جورج الكفوري (الذي تبيّن في ما بعد أنه المخبر الرئيسي في قضية الوزير السابق ميشال سماحة) بمساحة 1655 متراً مربعاً (من أصل 137 ألف متر مربع) لبناء محطة وقود وغسيل سيارات وتصليح دواليب وميني ماركت بتاريخ 5/1/2009 تنتهي صلاحيتها في عام 2027. كانت الأمور لتكون طبيعية لو لم يوكّل الكفوري، بعد شهرين من تاريخه، رئيس البلدية للاستحصال على التراخيص اللازمة لتنفيذ الإنشاءات. وبناءً على الاتفاقية، أصبح رئيس البلدية شريكاً في الاستثمار بنسبة 45% في إدارة المحطة وامتيازات إضافية. استخدم الريّس صلاحياته لطلب براءة ذمّة للعقار من بلديته، ليأتي الجواب بأن العقار هو قطعة أرض لا بناء عليه؛ فيمضي أبو جودة على براءة الذمة المطلوبة منه بنفسه ومن دون الرجوع الى أعضاء البلدية. بعدها بنحو 6 أشهر، عقد الريّس جلسة للمجلس البلدي لمحاولة إمرار الترخيص لمؤسسة مصنّفة من الفئة الأولى بطلب من الكفوري، مخفياً التوكيل بينه وبين الأخير عن المجلس. ليس ذلك فحسب، فالعقار الذي «لا بناء عليه»، اتضح بأنه يحوي سبعة أبنية أقلّه منذ عام 2000 بموجب عقود إيجار مسجّلة لدى البلدية. الريّس المتمرّس في بلدته منذ 16 عاماً، اتخذ البلدة كملك خاص يسرح فيها ويمرح كما يشاء. هكذا وصلت أعمال الحفر في العقار الى مجرى نهر الفوّار التابع للأملاك العامة النهرية لتكبير مساحته، لتبدأ الفيضانات من يومها على الطرقات نتيجة ردم النهر وتغيير الممرات الطبيعية وتحويرها، فضلاً عن التعدّيات التي طاولت طريقاً مصنّفاً طريقاً عاماً. أما الرسوم البلدية المجباة من سكان الأبنية غير المعترف بها، فتبيّن وفق تقرير الخبير أنها تذهب مباشرة الى محامٍ موكل من قبل الرهبنة وإلى البلدية.
استدعاءات بالجملة
في موازاة ذلك، تتضمّن الشكوى إخبارا حول تأجير واستثمار الأملاك العامة البلدية لمنفعة شخصية، بعدما قام أبو جودة بتأجير طوني السنيور صاحب مطعم السنيور العقار الذي يملكه (1225) الملاصق للعقار 1219 المملوك من البلدية. تجاوُر العقارين كان كافياً للسماح ضمنياً للسنيور بالتعدّي على جزء من الملك البلدي لإنشاء موقف غير مجّاني للسيارات ووضع مولدات كهربائية من دون الاستحصال منه على أي مردود مادي للبلدية لفترة فاقت العشر سنوات. وقد تبيّن أن القيمة التأجيرية المتدنّية ساعدت المستأجر على التهرّب الضريبي، وسط صمت إيجابي من قبل أعضاء البلدية الذين تبلّغوا شكاوى عدّة حول المخالفات الحاصلة من دون أي جدوى. تكرر الأمر مع وزارة الداخلية. الجرائم المالية والعقارية الموثّقة أحكمت الطوق جيداً حول رئيس بلدية أنطلياس إيلي أبو جودة بعدما فقد حصانته، تزامناً مع أفول نفوذ المر السياسي في إدارات الدولة. لذلك «تنغل» أجهزة الرقابة والتفتيش في البلدية بشكل مستمر. ففي منتصف العام الماضي، طلب المدعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس من أبو جودة تزويده بـ: 1- بيان تفصيلي بأسماء الأشخاص المعيّنين في ملاكات موظّفي البلدية وأجرائها والشرطة مرفقة بالسند القانوني. 2- الأساس القانوني الذي تمّت على أساسه إجراءات التلزيمات في البلدية، وخصوصاً تلزيم إنشاء المبنى البلدي على العقار الرقم 1219. 3- مدى توافق الاستملاكات البلدية المنفذة مع غايات تحقيق المصلحة العامة ومنها استعمال آليات وشاحنات رئيس البلدية في تنفيذ أشغال بلدية أو لحسابها. 4- بيان بقيمة المساعدات المالية الموزعة من صندوق البلدية. 5- نسخة عن قطوعات الحسابات بين سنوات 2012 و2018.
ووفقاً للمصادر، ردّ رئيس البلدية على أسئلة الديوان الذي لم يقتنع بأجوبته، فباشر التحقيقات مع الموظفين. وتبلغت رئيسة قسم المحاسبة في البلدية أمس طلب الحضور يوم الثلاثاء المقبل الى النيابة العامة في الديوان للتحقيق معها. وحاولت «الأخبار» الاتصال برئيس بلدية أنطلياس لسؤاله عن الاتهامات المُساقة ضده، إلا أنّه لم يجب على الاتصالات الهاتفية.
في مقابلة له قبيل انتخابات 2018 النيابية، قال الوزير السابق الياس المر إنه يريد أن «يكون وفيّاً مع رئيس بلدية أنطلياس الذي «عَمل» بلديته (…) لأنه اليوم وقف الى جانبي وسأقف بدوري الى جانبه كل حياتي لأنه ليس مرتكباً ويهدّدونه ويضغطون عليه… أقول «يفرجوني» ماذا بإمكانهم أن يفعلوا به، وسأريهم ما سأفعله أنا بهم في حال عبثوا مع إنسان «آدمي» (..) فإذا هم يعتقدون بأنني «بسَين» يضعونه في الزاوية وينتظروني لأخرمِش، فهم مخطئون، لستُ «بسين» ولا أخرمِش، هم يعرفون، والسلطة بيدهم في لبنان ليس في الخارج». يبدو أن مظلة المرّ الابن لم تعد صالحة هي الأخرى لإنقاذ أبو جودة من براثن القضاء.