كتبت جنى جبور في صحيفة “نداء الوطن”:
خميس “السكارى”، لا الذكارى”… ونقطة ع السطر! نجتمع اليوم مساءً لنأكل و”نسكر”، ولا داعي “لتفلسفِ” وتشاطر بعض “المبشرين الفايسبوكيين”، الذين عينوا أنفسهم معلّمين وواعظين، وقرروا إسقاط معنى روحي على هذه المناسبة الاجتماعية والعائلية!
ينقسم الناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي في مثل هذا اليوم حول تسمية الخميس بـ”السكارى” أو “الذكارى”، فتكثر الاجتهادات للدفاع عن وجهتي النظر ويتحول الفايسبوك الى جبهة لتراشق الاتهامات والعظات. ولكن مهلاً، فليعلم الجميع أنّه لا يوجد أي تبنٍّ للتسميتين من قبل الكنيسة التي تعتبره يوماً عادياً يسبق بدء الصوم عند الكنيسة المارونية والطوائف الكاثوليكة، الّا أنّه يطلق عليه “خميس السكارى” لارتباطه بتقاليد أجدادنا في مثل هذا اليوم. وأين المشكلة اذا كانت هذه العادة تفرح الانسان؟ هكذا يعلق الخوري إيلي سعادة، كاهن من أبرشية البترون المارونية على هذا الموضوع، مشيراً الى أنّه “لا يحق لأحد إلغاء العادات أو تكفير من يقوم بها فقط لعدم ارتباطها بأي معنى مسيحي. لا بل على العكس، جميلةٌ هي عاداتنا الشعبية المليئة بالفرح، ولا داعي أن يقوم بعض الناس والكهنة بمجهود اعطائها معنى روحياً. من جهة أخرى، صحيح أنّ هذا الاسبوع مخصص للموتى المؤمنين، ولكن لا علاقة لعادات اليوم (الخميس) به، والّا لكانت مآدب الطعام رافقت يوم 2 تشرين الثاني المخصص لتذكار الموتى. على أي حال، تندرج هذه العادات ضمن التقاليد الشعبية، حيث كان أهلنا، يسمّنون الخروف، لذبحه في الاسبوع الأخير ما قبل الصوم (على الأرجح كان يحصل ذلك يوم الخميس)، ويدعون الاهالي المتخاصمين للجلوس مع بعضهم البعض حول مائدة الطعام للأكل واحتساء المشروبات الروحية، كي لا يدخلوا الى زمن الصوم وهم في خصام. وهكذا تحول هذا اليوم الى خميس السكارى، لأهداف اجتماعية وروحية لجمع العائلات المتخاصمة، برمزية الفرح والاكل والشرب”.
ينتهي خميس “السكارى”، فنستقبل أحد مرفع اللحم والبياض (منتجات الحليب)، حيث يُرفع اللحم والبياض عن الموائد طيلة فترة الصوم، بهدف اقتراب المؤمن من الله. وبعد الأحد، نستعد لاثنين الرماد، اليوم الاول من الصوم الكبير حيث ترسم شارة الصليب بالرماد المجبول بالزيت المقدس على جباهنا، وقديماً كانت عادة ذرّ الرماد على الرؤوس والأجساد، رمزاً لتطهير الجسد والنفس من الشوائب والخطايا، وتذكير الإنسان بأنّ جسده ترابٌ وإلى التراب يعود: “أُذكر يا إنسان أنّكَ تراب وإلى التراب تعود” (تك 3: 19). ومع بداية الصوم تتضارب وجهات النظر وتنقسم الآراء أيضاً حول ما هو مسموح وممنوع في هذه الفترة، ونضيع بين التعاليم الدينية المسيحية والتقاليد الاجتماعية، حيث امتزجت الأعراف بالمبادئ وجعلت للصوم نكهة شعبية خاصة، يفسرها كلٌ بحسب مزاجه. الا أنّ هذا المفهوم غير موجود في الكنيسة، التي تعتبر أنّ الصوم الزامي مع ضرورة الالتزام بشريعته، هذا ما يفسره الخوري سعادة شارحاً أنّ “الصوم الزامي، ولا يقتصر على الصلاة ولو لم يكن كذلك لما صام سيدنا يسوع المسيح “هَذَا النَّوْعُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَلاَ يُطْرَدُ إِلاَّ بِالصَّلاَةِ وَالصَّوْمِ” ( متى 14:17-21). كما أنّ للصوم الجماعي نكهة خاصة وقيمة اضافية مميزة للمسيحيين. في المقابل، يعتبر الصوم تمريناً روحياً يفيد الجسد، ويهدف للسيطرة على ملذاته وشهواته، من خلال تحديد نوعية الأكل وكميته وتوقيته. ومن المهم أن نكتفي بما هو قليل وبسيط، وتقديم ما نوفره للمحتاجين والفقراء”.
الصوم بين المسموح والمرفوض
الصوم والصلاة والصدَقة، أساس زمن الصوم، ولا يمكن القيام بأحدها من دون الأخريين كي لا يفقد الصوم معناه، من هنا يستغرب الخوري سعادة “كيف يصوم البعض عن اللحوم ويأكلون السوشي… أين الصدقة في هذه الخطوة؟”. وكي لا يصوم كل مؤمن على طريقته، توجد شريعة واضحة للصوم، يوضحها الخوري سعادة قائلاً “يبدأ الصوم من منتصف الليل الى الساعة 12 ظهراً من الاثنين الى الجمعة. لا نصوم نهائياً (حتّى عن اللحم والبياض) يومي السبت والأحد بحسب تعاليم الرسل، لانهما يوما فرح؛ فالسبت تم فيه الخلق والأحد يرمز الى القيامة. كذلك، لا نصوم في الأعياد مثل عيد مار يوسف أو البشارة وغيرهما. ولكن هذا لا يعني أن نعوض ما صمنا عنه خلال أيام الأسبوع والاتجاه الى أكل اللحم بشراهة، بل يمكن تناول الأكل البسيط الموجود في المنزل حتّى لو تضمن اللحم أو البياض. أمّا في ما يخص السمك، فلا يعتبر من “الزفر” عند الموارنة ويمكن تناوله في زمن الصوم، وقد يعود ذلك الى أنّ الموارنة سكنوا الجبال، وبالتالي لم يكن السمك متوافراً أصلاً، وكانت اللحوم الأساس على الموائد وخصوصاً في المناسبات والأفراح. باختصار وبشكل مبسّط، هذه هي أهم نقاط شريعة الصوم عند الموارنة، وكل شخص يصوم عن أمور إضافية كالتدخين أو الحلويات وغيرها، تعتبر “إماتة” فردية مشكور عليها حتّى لو كانت غير الزامية، مع التذكير أنّ الصوم لا يهدف لخسارة الوزن، وأي “إماتة” لا تعتبر مفيدة اذا لم ترافقها الصلاة والصدقة”.
الصوم بتحرر
صحيح أنّ الصوم الزامي، ولكنه لا يهدف أبداً الى أذية النفس أو تعذيب الجسد أو أن يكون سبباً في تأخير حياتنا اليومية، لذلك يمكن الصوم “بتحرر” على حد قول الخوري سعادة، شارحاً أنّ “المريض ليس معصوماً عن الصوم، ولكن يمكنه تناول الكمية اللازمة قبل أخذ دواءه وأن يكمل الصوم من بعدها، وهذا ينطبق أيضاً على تلامذة المدارس، فأين المشكلة اذا تناولوا “لقمة” صغيرة قبل خضوعهم لامتحان الرياضيات مثلاً. ويمكن للفقير تناول اللحمة اذا قدمها أحد له فهي غير متوافرة يومياً ضمن لائحة طعامه. ويبقى الأساس في كل هذه العملية معرفة أنّ كل شيء على هذه الأرض فانٍ، ومن المهم أن نشهد بكل أعمالنا ليسوع المسيح إن كان بابتسامتنا، فرحنا، تأملنا وحشمتنا… بدل التلهي بقشور الحياة: “لا تكنزوا لكم كنوزاً على الأرض.. بل اكنزوا لكم كنوزاً في السماء…” (متى 38:5) “.
لنجتمع اليوم بفرح بخميس “السكارى” حول مائدة الطعام ولنشرب نخب عائلاتنا وأمواتنا وشهدائنا الذين رقدوا على رجاء القيامة الأبديّة… ولنثمل بحب يسوع المسيح ليكون صوماً مباركاً علينا جميعاً، على أمل قيامة لبنان من أزمته مع قيامة مخلصنا يسوع المسيح.
مرجع سريانيّ يُفسّر “خـَمـْشي شابا دْسَــكاري” (خميس السكارى)
هو تقليد شعبيّ درج عليه أهل برطلي منذ زمن قديم (وقد يذكره البعض بأنه عادة قديمة في الشرق المسيحي وربما في الغرب ايضاً) وفحواه انه في يوم الخميس الذي يسبق الصوم الاربعيني (الصوم الكبير) أشيع بأنه في ليلة هذا الخميس يتوجب على رجال القرية وخصوصاً الشباب المتزوجين أو العازبين تناول الخمر (العرق) وهو المشروب الروحي الوحيد الذي كان متوافراً في تلك الايام، علماً أنه كان يـُحَضـَّر ويـُصَنـَّع في بيوت القرية، فنادراً ما كنت تجد بيتاً يخلو من هذا المشروب، فتعمر الموائد خصوصاً باللحم المشوي والقلية المخزنة في الدار والذي يتوجب التخلص منها خلال هذه الأيام قبل الصوم، ويتزاور الاصدقاء والاقارب لعقد جلسات السمر في هذه الليلة التي سوف تطول أيام عودتها، لأنهم مقبلون على الصوم . وفي هذه الليلة وتسمى (ليلة خميس السكارى) يقولون أو هو شائع أنه من لا يتناول الخمر في مثل هذا اليوم يسقط أقرب المحبوبين إليه من سطح الدار، (أديو خـَمْشي شابا دْسـَكاري، أيما دْلا شاتي أْمْنـَبْـلا بَـخـْتيه مْـكاري) فالمتزوج يقال له سوف تسقط زوجته، والخاطب خطيبته، والعازب حبيبته إذا كان يحب، أو أمه أو أخته، وطبعاً هذا الادعاء بعيد عن الحقيقة ولكن يستخدمه البعض كذريعة لإرضاء شهوته في شرب الخمر، ولانه ايضاً سوف يبتعد عن تناوله طيلة أيام الصوم، حيث لا يحل شرب الخمر خلال ايام الصوم، كونه يعبر عن الفرح وهو مخالف لما يذهب اليه الصوم، وتعليم الكنيسة أيضاً. ومن المعروف أنّ الايمان كان مرتبطاً بحياة أبناء برطلي اليومية، فكانت تعاليم الكنيسة تحترم وتنفذ.