كتبت نوال نصر في صحيفة “نداء الوطن”:
كنا في شارعين، في ساحتين، في وطنين. كنا في الحمراء القريبة أمتاراً قليلة من كليمنصو وليد جنبلاط، والبعيدة “بالروح”، عن بعبدا، كما بعد الأرض عن المريخ!
العنوان الذي أطلقه التيار الوطني الحرّ كان: إستعادة الأموال المنهوبة. والعونيون لبوا النداء على صدى أغنية: “عونك جايي من الله” وصورة العماد ببزة الجيش ذُيّلت بثلاث كلمات: حرّية سيادة إستقلال. ننظر بين العونيين فنشعر وكأن الزمن تجمد هناك، في تسعينات القرن الماضي، حيث العماد بالبزة العسكرية. وكل ما تبِع كأنه ما كان وما صار.
“سلفي”، وسلام وكلام وودّ بين وديع عقل، الذي وصل للتوّ، والكثيرين. مئة، مئتان، أكثر بقليل وصلوا، وتأكيد عن باصات ستلحق بهم من جبيل و”المركزية” في ميرنا الشالوحي. شعار أو إثنان رفعا: “إرفعوا السرية المصرفية عن حساباتكم” و”حقنا نعرف مين حوّل”.
أحدهم كتب: لماذا تمّ تثبيت سعر صرف الدولار على 1575 بدل 3000 في العام 1993؟ شابٌ آخر رفع البطاقة البرتقالية عالياً ووقف مثل الصنم. لماذا يفعل هذا؟ أجاب: لأننا لا نخاف مثل غيرنا! نتركه واقفاً. ونصغي الى شرطي يُنظم السير قبيل قطعه من المتظاهرين: فلتقف الباصات الى أقصى اليمين و”ما تخلو حدا يقرّب صوبن”. نحاول أن نصغي أكثر لكن أغنية: “من هون من عنا انكتب تاريخ الأبطال” تطغى على كلّ ما عداها.
وديع عقل يُصرّح الى التلفزة. مدير مكتب جبران باسيل منصور فاضل وصل. أحدهم يصرخ: وصل الآدمي.
جورج عوكر، من كفرشيما، متحمس جداً. يدق هاتفه فتظهر صورة السيد حسن نصرالله. فلماذا صورة السيد على هاتف إبن كفرشيما لا صورة “فخامة الرئيس”؟ يجيب: صورة الثلاثة على هاتفي، السيد حسن يدق الهاتف. جبران باسيل حين أفتح الخط. والرئيس عون على الواتساب. يُعطي جورج عوكر لكلّ صاحب حق حقه. وهو أتى الى هنا، الى التظاهرة، تلبية لطلب النزول الى مصرف لبنان الذي وجهه التيار. وهو ملتزم عملاً بمقولة أنطون سعادة: السبب الأول للنجاح هو الإلتزام. هل نفهم من هذا انه قوميّ سوري؟ يجيب: سُئل سقراط: هل أنت فيلسوف أجاب لا لكني صديق الفلاسفة.
نتركُ جورج عوكر “يتفلسف” ونجول بين تظاهرة التيار الوطني الحرّ أمام مصرف لبنان. المصرف شبه مظلم باستثناء مكتبين في الطبقة الخامسة. أحدهم يُخبر صديقه عن وصول اللبنانيين الى النازا. يجيبه: وما نفع إذا ذهبنا الى المريخ ولم نأتِ بالكهرباء. إنتبه صديقه الى وجود أغراب فسكتا.
العتم حلّ. الباصات التالية لم تصل بعد. هناك من ملوا وقرروا النزول الى مفرق كليمنصو بحثاً عن مزيد من الحماسة. نلحق بهم. فنسمع من بعد هتاف: “جبران باسيل (…)”. نهرول وراء الصوت فنجد جداراً عسكرياً قد أحكم بين “شعبين”. شعب التيار الوطني الحرّ وشعب الحزب التقدمي الإشتراكي. نقطع الجدار العسكري نحو الطرف الآخر. ونجلس بين تظاهرتين. شابان وصلا للتوّ يسألان بخفر: أين تظاهرة التيار؟ أشرنا إلى جهة مصرف لبنان. ردا: نحن مع الثوار. وانضما الى الجهة المقابلة للتيار.
لماذا قرر الإشتراكي أن يتظاهر في وجه التيار الوطني الحرّ؟ تجيب مجموعة من الشباب بصوتٍ واحد: أرض كليمنصو والمختارة مقدستين. والتيار أتى الليلة ليستفزنا.
أيّ استفزاز هذا أن يأتي تيار لبناني الى أرض لبنانية لُيطالب بمطالب الثوار اللبنانيين؟ يجيب الإشتراكيون: هم أتوا بسلاحٍ في السيارات. ومجيئهم الى كليمنصو بالذات هو لاستفزاز وليد بك.
حماسة الشباب هائلة. الشارع انقسم بالكامل بين جبهتين. العونيون يصرخون باسم العماد ميشال عون والإشتراكيون يهتفون باسم وليد بك. أحدهم يتحدث عن خربان البلد على أيام ميشال عون مردداً: “خربت في عهده. طولنا بالنا عليهم منذ قداس دير القمر. وها هم يسعون الى تعويم أنفسهم من بوابة حاكم مصرف لبنان.
ثمة شباب ينغلون في كلّ الإتجاهات. أصوات حجارة تتكسر في “السنتر” المجاور. الشباب الإشتراكي يستعد الى المواجهة. ثمة شبان أكبر بقليل يمنعون “هذه الحركات” معلنين أن “وليد بك بيزعل منا”. وأحد وسطاء الخير من الإشتراكيين قال للشباب بصوت عال: من اعتدى فليس منا ومن لم يردّ الإعتداء فليس منا.
الجيش اللبناني تراجع الى الوراء وفرقة الشغب تقدمت الى الأمام فابتسم شاب وقال: عشر دقائق وتشتدّ المواجهة. أقل من عشر دقائق وبدأ فجأة، من حيث لم ير أحد ولم ينتظر أحد، رمي القناني والحجارة من كلّ الإتجاهات. نزلت القناني الزجاجية على الرؤوس. الدم انهمر من وجه متظاهر إشتراكي. شباب قبعوا الأشجار والحديد وكلّ كلّ شيء. في المقابل كان هناك شباب يُمسكون الأشجار والحديد وكلّ ما قد يؤذي من أيدي الشباب الثائر. هرج ومرج. وذهاب وإياب. وكثير من الهتاف. أحد الشباب شتم قائد الجيش فلاقاه أحد الشباب الآخرين: إلا قائد الجيش.
وظلوا يهتفون من ميل: “وليد بك ما تهتم بدل المتي منشرب دم” ومن ميل آخر: عونك جايي من الله. النائب هادي أبو الحسن وصل. وصل نواب آخرون. تصاريح ودماء ومواجهات وعصي وحجارة وقناني زجاجية. انتهت الجولة. إنتهت تظاهرة العونيين المطالبين بردّ الأموال المنهوبة. تُرى هل سمعت الدولة بأمها وأبيها، بدءاً من بعبدا الى عين التينة الى السراي، ما أراده العونيون بعد الثوار؟ مع فارق أن للعونيين ظهراً!