كتبت أندريا مطر في القبس:
تستفحل الأزمة الاقتصادية والمعيشية، التي يرزح تحتها لبنان يوماً بعد يوم، مخلِّفة مزيداً من الكوارث الاجتماعية والمعيشية، حيث دخلت البلاد في نفق أسود منذ أربعة أشهر، وسط توقّعات بأن تمتدّ الضائقة المالية لسنوات، تجعل الفقير الذي يستنجد بالدولة العاجزة والمفلسة في دوامة بؤس قاتلة. وحدها، أعمال الخير التي تقوم بها الجميعات الخيرية وأصحاب القلوب البيضاء، تخفّف من وطأة الفقر والعوز وتترك بقعة ضوء على مشهديتنا القاتمة. القبس توجّهت الى جمعيات خيرية عريقة في عملها الإنساني؛ لتستطلع أوضاعها وشؤونها. نسبة البطالة القياسية وانخفاض القدرة الشرائية مع انخفاض قيمة الليرة، وارتفاع الأسعار وتفلتها.. كل ذلك شدّ الخناق على رقاب البنانيين، تزامناً مع انهيار كلّي لنظام شبكة الأمان الاجتماعي المترهّل أصلاً. وبينما تسعى «الدولة» الى إيجاد مخرج لأزمتها المالية، يبحث المواطن عمن ينجده لتأمين حاجاته الأساسيات المطلوبة للصمود. الجمعيات الخيرية هي نافذة الأمل في بحر الأزمات المتلاطمة، وما زالت تعمل، وإن بشق الأنفس، حيث باتت تقوم مقام الدولة في رعاية أبنائها. ولكن كيف تستمر هذه الجمعيات، التي تؤمِّن جزءاً من تمويلها من الحكومة في حين الجزء الأكبر يقوم على تبرّعات المحسنين؟ وهل ما زالت قادرة على العطاء مع تزايد أعداد الفقراء؟!
«المبرَّات»: نجهد للاستمرار
جمعية المبرّات الخيرية سعت، ومنذ نشأتها في عام 1978، للتخفيف من وطأة الحرمان واليتم والعوز، والإعاقة، عن طريق مؤسساتها المختلفة على امتداد الأراضي اللبنانية. يوضح المدير العام للجمعية الدكتور محمد باقر فضل الله ظروف عمل جمعية المبرّات الخيّرية، وكيف تجهد للاستمرار في التزاماتها حيال أكثر من 4605 أيتام في مؤسساتها الرعائية العشر، و624 تلميذاً من ذوي الإعاقات البصرية والسمعية واضطرابات اللغة والتواصل في مؤسسة الهادي. كما تقدّم الجمعية التعليم لحوالي 23 ألف تلميذ في مدارسها العشرين الأكاديمية والمهنية المنتشرة في لبنان، إلى جانب دمج أكثر من 1484 تلميذاً من ذوي الاحتياجات الخاصة. مراكز صحية للمسنين وتوفّر «المبرّات» الخدمات الطبية والغذائية والإقامية لعشرات المسنين المقيمين في دور للمسنّين، كذلك تؤمّن المساعدات لعشرات المسنين في منازلهم، من أدوية ولوازم طبية ومساعدات مالية. وتقدّم من خلال مراكزها الصحية خدمات التشخيص والعلاج والتأهيل للمواطنين.
وقد بلغ عدد المستفيدين 77190 في عام 2019، فضلاً عن تقديم الرعاية الصحية للأطفال الذين يعانون الأمراض المزمنة والسرطان والتشوّهات الخلقية، من خلال صندوق الفرح، في مستشفى بهمن، الذي يسهم في تحمّل تكاليف علاجهم. ويشيد فضل الله بتبرّعات دولة الكويت للجمعية، قائلا انه حين تعرّضت بعض مؤسسات المبرات في جنوب لبنان للدمار خلال حرب تموز 2006، قدّم سمو أمير البلاد الشيخ صباح الأحمد مكرمة أميرية لبناء إحدى المؤسسات المدمّرة، وهي مبرة الإمام علي لرعاية الأيتام. تبرُّعات عينية وأمام هذا الواقع، لم تتخلَّ «المبرّات» عن دورها الخيرّي، بل سعت إلى التخفيف من وطأة هذا الواقع، من خلال مبادرات خيريّة متعددة، ومنها معرض العطاء الذي يستقبل التبرّعات العينية (ألبسة، مواد غذائية، واحتياجات أساسية)، ويقوم بتوزيعها على المحتاجين والفقراء في المناطق الأكثر فقراً، إلى جانب توزيع مواد التدفئة للأسر المحتاجة في المناطق الجبلية. ويوضح فضل الله أن تداعيات الواقع الاقتصادي الصعب في لبنان فرضت وضعاً مأزوماً مع إغلاق الكثير من المؤسسات التجارية وصرف الموظفين من عملهم، فضلاً عن زيادة نسب الطلاق والانتحار وارتفاع معدلات الجريمة والهجرة، ما أدى بالنتيجة إلى ازدياد أعداد العائلات المعوزة التي تحتاج المساندة وتقديم يد العون والدعم على أكثر من صعيد، داعيا الجميع الى حماية هذه المؤسسات واحتضانها أكثر من أي وقت مضى. على مدار الساعة لجمعية مار منصور الخيرية 49 فرعاً على الأراضي اللبنانية، وهي قائمة منذ 160 سنة، وهدفها «خدمة الإنسان» أينما كان.
ترفض ايلا بيطار المسؤولة الإعلامية في الجمعية استخدام كلمة «فقراء»، فنحن كلنا فقراء، فتقول: مهمتنا أن نوفر للمحتاج ما ينقصه صحيا، وتربويا وماليا، وفق قدرتنا. ولدى سؤالها عن تغيّر ظروف عمل الجمعية ما قبل انفجار الازمة الاقتصادية، وما بعده، تقدِّم المثال التالي: «للجمعية مدرسة في برج حمود هي شبه مجانية، ومسجل فيها 533 طالباً، من بينهم 350 لم يتمكّنوا من دفع المبلغ الزهيد، الذي تفرضه الادارة حتى الآن». وهو ما يلقي أعباء إضافية على الجمعية الملزمة تأمين رواتب 50 موظفا من الهيئتين التعليمية والإدارية. وتشدّد بيطار على انه رغم كل الظروف تحرص الجمعية على إبقاء التلاميذ في المدرسة، خشية من خروجهم الى الشارع و«نعرف ماذا يعني ترك الأطفال في الشارع!». Volume 0%
ما قبل هذه الظروف المعيشية المستفحلة كانت الجمعيات الخيرية تعمل في ظروف شديدة الصعوبة، فكيف الحال اليوم؟ «ابواب الجمعية تطرق على مدار الساعة. فأعداد المحتاجين مخيفة في مقابل تناقص أعداد المتبرّعين. ولا نعلم كيف سنستمر؟!». تقول بيطار. «وصّلونا نشحذ» بغضب وحزن، تتحدّث بيطار عن مساهمة الدولة التي تخلّت عن مسؤولياتها في تمويل الجمعية: «الدولة تساهم، الى حد ما، ولكن لن أتطرّق الى هذه المساهمة الآن. الكل يعلم ما الذي ارتكبته هذه السلطة والى أين أوصلتنا. لو كانت الدولة تقوم بواجباتها فلم يكن من داع للجمعيات الخيرية.. وصلونا نشحد». وتضيف: «صحيح اننا نعاني منذ سنوات، ولكن لم يخطر يوما في بالنا أننا سنصل الى يوم نسمع فيه ان أباً لم يستطع تأمين علبة حليب لطفله!».
وتسوق بيطار أمثلة كثيرة عن حالات البؤس، التي ستنجم عنها اعمال سرقة وقتل وحالات انتحار: «هناك أولاد يحضرون الى مدرسة الجمعية من دون ساندويتش. وعندما تطلب المساعدة الاجتماعية في الجمعية من الأهالي المساهمة بجزء بسيط من مصاريف المدرسة يجيبونها: أوقفنا الدواء لكي نشتري الخبز؛ هذه الحالة كانت في مطلع العام. أما اليوم، ومع اشتداد الازمة أؤكد ان عائلات كثيرة لم يعد بمقدورها شراء الخبز».
5 آلاف موظف
تحرص جمعية المبرّات على تأمين الرواتب الشهرية لما يزيد على 5000 موظف في مؤسساتها الرعائية والتعليمية والمهنية والاستشفائية، على الرغم من الضيق الاقتصادي الذي تسبّب في ضعف إيرادات الجمعية، وبالخصوص تبرّعات الخيّرين ومساهمات الكافلين. وبنتيجة هذا الامر أقرّت الجمعية موازنات تقشّفية، ووضعت الخطط والبرامج التي تعزز سياسة ترشيد الإنفاق في جميع مؤسساتها. مبادرات فردية لا يقتصر عمل الخير على الجمعيات الخيرية. هناك أفراد ومؤسسات يقومون من حين لآخر بمبادرات إنسانية، كجمع الحصص الغذائية او الملابس وتوزيعها على المحتاجين. ومن هذه المبادراتfeed for Lebanon التي أطلقها جورج عبود وشريكه منذ 8 سنوات. كانت مبادرة شخصية بلا اسم، هدفها توفير مبلغ معيّن سنويا وتقديمه لعائلات محتاجة. لكن الظروف المالية الراهنة واجراءات المصارف اوقفت مبادرتهما، او بالأحرى عدلت في مسارها. يشرح جورج لــ القبس انه استعان بأصدقائه الحقيقيين والافتراضيين لإكمال عمله الانساني. «كتبتُ منشوراً على الفيسبوك بأن لبنان مقبل على مجاعة، وعلينا توفير الغذاء للعائلات الفقيرة»، وبدأت التبرّعات تتقاطر من لبنانيين مقيمين ومنتشرين في الخارج. منهم من تبرّع بتوفير المأكل، ومنهم المال، او الملابس، وبعضهم تطوّع للمساعدة في التوضيب، وفي البحث عن عائلات محتاجة. «وزّعنا مساعدات وحصصاً غذائية لنحو 4 آلاف عائلة من أقاصي الجنوب الى عكار، فالبقاع، ثم بيروت». وقبل ايام، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي خبر عن رجل اعمال يقيم في استراليا، قام بزيارة الى منطقة «شمالية»، وأقدم على تسديد ديون أهل بلدته لدى «الجزارين» والبقالة والصيدليات، من دون علم أصحابها.