كتبت هيام القصيفي في “الاخبار”:
يقول دبلوماسي فرنسي إن الإدارة الفرنسية باتت أقرب إلى الاقتناع بأنه «لم يعد يمكن التعويل على الطبقة السياسية الموجودة في لبنان لإنقاذ البلد، وفق ما تراه من أداء أوصل لبنان إلى حالته الراهنة». يضيف الدبلوماسي بكلام غير دبلوماسي ان الجو الفرنسي الرسمي لا يتفاعل إيجاباً في الكلام عن القيادات السياسية وإمكان التفاهم معها على ما يمكن أن يشكل خريطة طريق لمعالجة الانهيار. وهذا لا ينحصر بالحكومة الجديدة أو بالعهد فحسب، بل بمجمل السياسيين اللبنانيين الحاليين الذين لا يمكن الرهان عليهم لإجراء إصلاحات جدية.
في المرحلة الأخيرة، كانت الدوائر الأميركية المعنيّة هي التي تبادر إلى التعبير عن مثل هذا الجو. لكن مفارقة الكلام الفرنسي أنه يأتي من الجهة التي تُعد تقليداً أقرب إلى فهم العقلية السياسية اللبنانية، ولها خبرة مزمنة في التعامل مع القيادات السياسية، فضلاً عن تدخلها في أزمات وحلول سياسية واقتصادية عدة. لكن الكلام الفرنسي يعكس في جانب منه أيضاً تبدلاً في وسائل اطّلاع باريس عن كثب أكثر، على حقائق دقيقة بشأن ما يجري، وليس عبر القنوات المعتمدة عادة لديها، والتي غالباً ما كانت تغلب مصالحها ومصالح أصدقائها في نقل الوقائع.
يمكن للبعض اعتبار الأجواء الفرنسية غير معزولة عن علاقة باريس بالرئيس سعد الحريري الخارج من السلطة، في ضوء ما حصل في الأشهر التي سبقت انتفاضة 17 تشرين الأول واستقالة الحريري، من مناكفات بينه وبين التيار الوطني الحر كانت باريس شاهدة عليها، وخصوصاً بعد جو المشاحنات التي أعقبت شكوى الحريري للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن عرقلة فريق رئيس الجمهورية ميشال عون للإصلاحات وعمل الحكومة في مجالات عدة أبرزها الكهرباء، ليعقب ذلك ما تم تداوله حول لقاء عون وماكرون على هامش اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتحدة في أيلول الفائت، وما قاله رئيس الجمهورية في حقّ الحريري. علماً أن ماكرون في لقائه رئيس الحكومة السابق وعده بالمساعدة لتحقيق الإصلاحات الاقتصادية وتسريع الخطوات لإنجاز كل ما يتعلق بوضع مؤتمر «سيدر» على السكة. كما كان وعد أكثر من مرة بزيارة للبنان، لم تتحقق بعد، بعدما أرجأها إلى عام 2020، للدفع في اتجاه ترجمة عملية لـ«سيدر».
لكنّ الرئيس الفرنسي حرص بعد استقالة الحريري على التواصل مع عون، ومن ثم الإبقاء على خط الوساطات ومراقبة ما ستنتجه الانتفاضة الشعبية في مقابل السعي مع المفاوضين للدفع إلى تشكيل حكومة جديدة. كان الموفد الفرنسي مدير دائرة أفريقيا والشرق الأوسط في الخارجية الفرنسية كريستوف فارنو يجول في بيروت ويلتقي لاحقاً مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط دايفيد شينكر في باريس للبحث في إمكان المساعدة في احتواء تدهور الوضع اللبناني. في هذه المرحلة حاول الفرنسيون المساهمة في تثبيت الاستقرار. وكانوا يعطون أولوية لتشكيل حكومة تعيد وضع المسار الداخلي كما مؤتمر سيدر على الطريق الصحيح، ولا سيما مع الانتظارات التي تعلقها باريس على ارتدادات المؤتمر على الشركات الفرنسية. ورغم «التورط» الفرنسي في الملف الاقتصادي اللبناني، سواء عبر سيدر أم في قطاع الغاز الذي تراهن عليه فرنسا بقوة، بدأت باريس تعيش حالة تململ مما آلت اليه الأوضاع، وخصوصاً مع انفتاح الملف المالي والمصرفي على هذا الكمّ من المعلومات حول الأموال المهرّبة إلى الخارج ومعاناة المودعين، إضافة إلى انكشاف فضائح الفساد في الإدارات اللبنانية. علماً أن الكلام عن سيدر ينحسر حالياً لصالح أولويات ملحّة تتعلق باستحقاقات لبنان المالية وسندات اليوروبوند، ما يجعل باريس تنكفئ عملياً عن الدخول بقوة في هذا الملف مع الحكومة الجديدة، تريثاً لمعرفة نتائج القرار اللبناني المقبل، كما التوجه الأميركي بهذا الخصوص.
لا يعني ذلك تخلي باريس عن الحضور في لبنان سياسياً واقتصادياً، لكنه يعني للمرة الأولى مناخاً جديداً بدأ يتعمّم من واشنطن إلى لندن وباريس حول مستقبل لبنان، في ضوء معلومات مقلقة. والمفارقة أن الكلام عن الفساد، تحوّل فجأة، لدى مسؤولين في البنك الدولي كما لدى العواصم الغربية المعنيّة عادة بالملف اللبناني، إلى بند أساسي في المحادثات الدائرة حول مستقبل لبنان وإسهاب سياسي وإعلامي عن الفضائح والارتكابات، علماً أن هؤلاء أنفسهم هم الذين تعاطوا مع هذه الطبقة السياسية منذ سنوات من دون أي اعتراض على سلوكياتها، وصرفوا النظر عنها وعن فسادها.