كتب مريم مجدولين لحام في “نداء الوطن”:
بعد إهمال دام أكثر من ثمان وعشرين سنة، تجاهلت فيه وزارتا الثقافة والبيئة منطقة نهر الكلب وتهاونت بمحيطها المصنّف “من المواقع الطبيعيّة بموجب القرار رقم ١/٩٧ والتي أدرجت على لائحة “ذاكرة العالم” من قبل منظمة الأونيسكو عام ٢٠٠٥”، استحوذ التيار الوطني الحر على مدخل كسروان “بترخيص القانون” وبدأ مشروع بناء مقرّه الأساسي على تلك الأرض، الأمر الذي لاقى مؤخراً استنكاراً وجدلاً واسعاً والتيار يردّ مرّتين… بين اللغط والوقائع في المعلومات المتداولة، ما حقيقة الموضوع؟
ائتُمِنَت الرهبانية اللبنانية المارونية على الموقع الذي يشيّد التيار الوطني الحر عليه اليوم مبنًى حزبياً، لما يحمل في كنفه من خصوصية مسيحية وقيمة تاريخية عريقة وكونه محاذياً لآثار وادي نهر الكلب الواقع على الطريق التاريخية الساحلية التي تشمل نحو 23 نقشاً ونصباً تذكارياً منحوتاً في الحجر الجيري حول مصبّ النهر ويعود تاريخها لأحداث مرّت بين الألفية الثانية ما قبل الميلاد وحتى القرن العشرين. بعدها سُلّمت الأمانة والمُلك الذي تم شراؤه من مال تبرعات الطائفة المارونية على شكل “عقد إيجار واستثمار” لصالح التيار الذي رأى فيه موقعاً استراتيجياً على مدخل المتن وقريباً من الساحل ومن بيروت.
المشكلة في تنفيذ القانون
يقول المجلس الدولي للآثار والمواقع في لبنان (ICOMOS-Lebanon)، بصفته ممثلاً عن مجتمع التراث الوطني، أنه يشعر بقلق بالغ إزاء الحالة الراهنة لحماية وحفظ النصب التذكارية لنهر الكلب. واعتبر أن “الموقع يتعرّض للخطر من خلال بناء مجموعة من المباني التي ستكون بمثابة مقر لحزب سياسي كما سيؤدي تنفيذه إلى تشويه الموقع التراثي بالكامل وبصورة لا رجعة فيها من خلال الحفريات والتسلل على منظره التاريخي”. ويتوقع المجلس “أن يتم تنفيذ المجمع على بعد أقل من بضعة أمتار من الأعمدة التذكارية لنهر الكلب التي تؤثر على السياق البصري المباشر” ويعتبر أن هذا الموقع المنوط بالرهبنة المارونية اللبنانية منذ مئات السنين، يُنتهك اليوم بقرار سياسي، من دون أي اعتبار للحد الأدنى من المنطقة العازلة حتى لو لم تحدده السلطات المسؤولة المعنية بتنفيذ القانون وأن مع هذا الاقتحام المباشر، “سيفقد الموقع الأثري كل فرصه ليتم إدراجه في قائمة التراث العالمي لذلك فإن تاريخنا في خطر وليس محمياً كما كان يجدر على القانون أن يحميه” ثم طالبوا بشدة إيقاف فوري لمشروع البناء وإعادة النظر العاجلة من أجل إلغاء تحديد موقع المجمع قبل فوات الأوان.
لذا، تكمن المشكلة في تنفيذ القانون، فيكاد كل من اطلع على أوراق مشروع “بيت التيار” على تلة نهر الكلب، التي أعلن عنها التيار بعد طول انتظار، يخرج بخلاصة لا لبس فيها مفادها بأن ما هو مطروح من أوله إلى آخره هو مشروع متكامل ومرخّص قانوناً إذ أنه بحسب التيار لن يتم بناؤه في النطاق الاثري للموقع المدرج على لائحة الجرد العام بموجب القرار رقم 506تاريخ 531937 والخاضع لحماية وزارة البيئة بموجب القرار رقم 971 ولكن في الواقع ان الموقع من المنبع الى المصب كان من المفترض أن لا يتم البناء عليه مطلقاً وألا يستحصل على تراخيص وهو ما أثاره عضو اللقاء الديموقراطي النائب اكرم شهيب في جلسة اللجان المشتركة في مجلس النواب يوم الاربعاء في 19 شباط 2020 والذي اعتبر ان ما يحدث مخالفة قانونية فادحة، مشاركاً على صفحته الرسمية ما أظهرته صور الأقمار الإصطناعيّة من تشوه بيئي وبصري الحاصل في الموقع المشار اليه.
وأكد شهيب لـ”نداء الوطن” أن اللقاء الديموقراطي هو اول من أثار هذه القضية في اجتماع اللجان المشتركة عبره وبحضور وزير البيئة، وزير السياحة ووزير الزراعة طالباً من الوزارات المعنية تقديم التراخيص القانونية التي سمحت بقيام هذا المشروع “ان وجدت” ووعد أنه سيتابع هذا الملف شخصياً عبر مساءلة الحكومة وفي اللجان المشتركة. طبعاً باستثناء أنه سيكون على ملك كان المرور عليه عاماً للمواطنين جميعاً وتحوّل إلى ملك خاص بالعونيين فقط. وبدلاً من أن تعمل السلطات اللبنانية على الاهتمام بالموقع والصرف عليه مادياً ليتم إدراجه في قائمة التراث العالمي، عملت على إهماله مطولاً إلى أن اغتنم التيار الوطني الحر فرصة استثماره في بناء مقره، حيث لا رادع قانونياً يحمي المنطقة الملاصقة بالموقع الأثري ولا كانت تأبه السلطة مسبقاً للموقع، لا بل من المتوقع أن يهتم العونيون بالمكان أكثر مما كانت الدولة تهتم به، بما أنه سيعكس “صورتهم”.
أخذ ورد
إنطلقت مسيرة في منطقة نهر الكلب صباح أمس الأحد احتجاجاً على الإعتداء على الآثار، أكد خلالها مؤسس ورئيس جمعية الأرض – لبنان بول أبي راشد، أن مشروع المجمع الخاص بالتيار لم يستند إلى دراسة أثر بيئي وأنهم سيستمرون في الاحتجاج الى حين ايقاف المشروع. كما كشفت الناشطة السياسية سعاد غاريوس في حديث خاص لنداء الوطن عن أن المتعهد الذي ينفذ المشروع هو “بطل المحاصصة” وشرحت “إن متعهد مشروع بناء سد بسري داني خوري هو “جهاد العرب ـ العونيّون” فقد حصل على عقد مكب برج حمود للتيار مقابل عقد مكب الكوستا برافا للمستقبل، كما أنه حصل على مشروع في منطقة الذوق الذي يتضمّن إقامة سنسول بحري وإنشاء مسابح و”مارينا” لليخوت الصغيرة على أرضٍ تابعة لسركيس سركيس، وتولى تنفيذها هو كصديق الوزير السابق جبران باسيل والذي يملك جهاد العرب نصف شركته مقابل مشروع سنسول الناعمة لجهاد العرب، لذا من غير المستغرب أن يرتبط اسم يحاصص على الأملاك البحرية بتنفيذ مشروع على أملاك الوقف الماروني ولو بالتراخيص المطلوبة، والعلة تكمن في الدخول من باب القانون”. على الرغم من أن مدير شركة الهندسة التي قدمت الرسومات التفصيلية هو شخص منتسب للتيار، يؤكد مسؤول لجنة المنشآت فادي حنّا أن كل الأخذ والرد ما هو الا اقحام للتيار في صراع أساسه سياسي بحت.
وأنه عمل شخصياً لمدة سنتين كاملتين للحصول على الرخص اللازمة من كل الجهات المعنية وأهمها لجنة التنظيم الأعلى التي وقع كل اعضائها بمختلف تبعياتهم السياسية عليها. وأصرّ أن التيار لم يشرع في ورش العمل قبل تحقيق كل ما يلزم وأن لا شيء يمنعهم في استكمال العمل، وأنهم سيلتزمون كل الإلتزام بالقانون وابتعاد أعمال البناء 20 متراً عن المعالم الأثرية وأن البناء لن يؤثر لا على المشهد والمطل للتلة ولن يظهر على الطريق العام عند انتهائه وأنه لن يشوه المنظر العام للجبل بل سيعمل على إحاطته بالأشجار للحفاظ على جمالية المكان وطبيعته الخضراء.
وختم “حتى هناك عقارٌ كاملٌ يحول بين الطريق والمقر تظهره الخرائط” وأنهم سيقيمون مكاناً عاماً في الوسط بين عقارهم والآثار وذلك بالتعاون مع الهيئة العليا للآثار وسيكون عبارة عن استراحةٍ ومركزٍ يشرح من خلاله عن آثار نهر الكلب وما نُحتَ على الصخور وانهم يضغطون من أجل إقامةِ مشروعِ موقفٍ للباصات على طريق زكريت لتشجيع قدوم الرحلات للتعرّف على المعلم الأثري التاريخي”. وهنا يعاتب المحتجون الدولة اللبنانية التي برأيهم وصلت إلى حد “خصخصة الآثار” بسبب اهمالها وعدم المحافظة لا على الموقع الأثري ولا على ما كان يجدر به أن يكون امتداداً طبيعياً للموقع الأثري الذي يروي التاريخ!
في السياق، تحدثت الناشطة الحقوقية رولا تلج لـ”نداء الوطن” أنه في السابق أرادت راهبات يسوع الملك إضافة طابق لمأوى عجزة في الدير الموجود في نفس المنطقة فإذا بهن يصطدمن بالقانون فمُنعوا من إضافة ذلك الطابق لمدة زمنية طويلة إلى أن استحصلوا على اذنٍ من الفاتيكان، فكيف استحصل التيار على اذن من الفاتيكان بكل سهولة لبناء موقع ضخم وليس طابقاً” وأشارت أن “كلفة الحفر لم يدفعها التيار بل كانت “شبه هدية” من شخص من عائلة الحاج وهو صاحب شركة بحص وصاحب كسارات مقابل إعطائه رخصة كسارة جديدة في سلسلة الجبال الشرقية ورخصة للإستحصال على مغسل بحص للتزفيت”.
وفي حديث هاتفي مع السيد بيار الحاج، الذي نفذ للمتعهد بيار الخوري أعمال الحفر، أنكر الموضوع وتحدّى بابرازها أي مستند يفيد بما اتهمته به وقال “لم ولن أقدم لا على رخصة كسارة جديدة ولا على مغسل بحص”، كما أنه يتقاضى مالاً مقابل أعماله ولم يتبرع بالعمل كما أن كلفة الحفر بحسب افادته لم تصل إلى ربع مبلغ مليون ومئتين ألف دولار الذي أعلن عنه الناشط البيئي رولان نصّور. وهنا يتساءل متعهدو البناء كيف قبل أن يتقاضى مقابل حفر في منطقة صخرية مبلغ 400 ألف دولار وهو مبلغ بالكاد يكفي مقابل حفر موقع فيلا 1500 متر مربع في تسعيرات السوق.
استباق الأمور
وعن مستقبل الإعتراضات يرجح المُستنكرون أنها “لن تفضي لشيء”، بعد أن استبق التيار كل ما سيحدث بالنتيجة النهائية، عندما استوفى كل الشروط القانونية المرعية الإجراء، وحصل على موافقة وإمضاء نقيب المهندسين جاد تابت وعلى قبول اتحاد بلديات المتن وعلى رخصة رسمية وموافقة من المديرية العامة للآثار والتنظيم المدني في وزارة الثقافة، ذلك بعد فرض الأخيرين تعديلات على خطة التنفيذ الأساسية، تقضي بالابتعاد 10امتار عن حدود الموقع الاثري عند التنفيذ، وتلحظ مسافة 20متراً بين الحدود والبناء المنوي إقامته، الأمر الذي يشك كثيرون في ما إذا ستتم مراقبة تطبيقه بشكل دوري من الوزارة أو رصد التقيد بشروطه الموضوعة عند إتمام المشروع.
ما زالت مناورات السلطة السياسية تضفي الشكوك على مستقبل لبنان البيئي والثقافي الذي تراجع بشكل هستيري في السنوات الأخيرة مع كل المشاريع التي تم فرضها من سد المسيلحة إلى سد بسري إلى مد التوتر العالي في المنصورية. وفي هذا الإطار، إذا كان المشروع قانونياً لا تشوبه شائبة، لا يعني أنه أمر مقبول أخلاقياً، أو أنه “لا يشوّه الطبيعة”.
“شو وقفت عليي؟”
وتقول وزيرة ظل البيئة في حزب سبعة رانيا باسيل لـ”نداء الوطن” إن “من يزور المكان رغم وجود الأسلاك الشائكة يلاحظ قربه من مواقع استثمارية أخرى ومنتجع معروف وبدل ايقاف المتعدين على الأملاك البحرية والأملاك المحيطة بالآثار وتحويل المنطقة إلى محمية يحوّلون اليوم جبلاً عاماً إلى ملك خاص على مبدأ “شو وقفت عليي؟” تماماً كما يحدث في أغلب الملفات التي نتابعها عن كثب، بدل إيقاف الفساد يتلطون وراء فساد فريق سياسي آخر، فينضمون إلى الأحزاب السياسية الأخرى التي يعارضونها وتملك مواقع مماثلة!” وتساءلت “ألن يتحول الموقع الى مكان خاص لابيئي، تدخل اليه السيارات والزفت وسيستثمر في نشاط سياسي بعد أن كان جبلاً أخضر؟ وهل اهمال الدولة للموقع يدفع بنا إلى تحويله من جبل إلى مجمّع أبنية؟”
“فلس الأرملة”
“نريد أن نبني بيت التيار بفلس الأرملة، لذلك نحن بحاجة إلى مساعدتكم” قالها الوزير السابق جبران باسيل في 7 آب الماضي ضمن احتفال وضع فيه حجر أساس المشروع. ولكن تبيّن أن “فلس الأرملة” الذي يحتاجه التيار يتخطى مبلغ العشرة ملايين دولار. وحول ذلك، يوضح مسؤول لجنة المنشآت فادي حنّا أن التيار لم يجمع حتى الآن الكلفة الكاملة للمشروع. وهنا يجدر السؤال “أليس صعباً جمع ملايين الدولارات في وقت تتحكم القيود المصرفية في معاملات أكبر الشركات وأهمها؟”
إلى ذلك، تفاجأ التيار الوطني الحر في بيانه الأخير بالتوقيت المشبوه لما أسماه بـ”الحملة الممنهجة التي تستهدفه” وتساءل “لماذا هذه الحملة الآن فيما كان وضع حجر الأساس منذ ستة أشهر عند الإنتهاء من أعمال الحفر”، علماً أن باسيل كان قد توقّع استياءً حينها إذ أنه قال في نهار الإحتفال “ستسمعون الإنتقادات من كثر ممن لديهم قصور بنوها من أموال الخارج، بنوا قلاعهم من الخوات ومن تمويل الخارج ويعيبون علينا فقرنا، ويتم وصفنا بالفاسدين” كما لو أنه كان يعلم أنه سيتم انتقاد ضخامة المشروع من ناحية التمويل الذي يحتاجه.
ويقول المحامي نجيب فرحات لـ”نداء الوطن” أنه قانوناً يحق للتيار تلقّي مبالغ طائلة بلا حسيب أو رقيب إذ لا رقابة فعلية على اموال الاحزاب كونه ليس هناك من قانون مستقل وحديث للاحزاب في لبنان التي لا تزال تخضع اصلاً لقانون الجمعيات الصادر عام 1909 والتي لا يُفترض ان تبتغي الربح بحسب احكامه. هناك رقابة شكلية غير مجدية وليس لها اي مفعول عملي على الجمعيات بشكل عام، وهي المنصوص عليها بالمادة 7 من القانون المنفذ بالمرسوم رقم 10830 التي تقول: “في الشهر الاول من كل سنة، على كل جمعية مجازة ان تتقدم من وزارة الداخلية بلائحة تتضمن اسماء اعضائها وبنسخة من موازنتها السنوية ومن حسابها القطعي السابق. ويخضع هذا الحساب لمراقبة الوزارة المختصة” لكن حتى تخلّف الجمعية عن هذا الموجب يعرضها لغرامة مالية بسيطة بين 50 الفاً و200 الف ليرة بحسب المادة 8 من نفس القانون، تضاعف عند التكرار.
بالمحصّلة ستتوجه لجنة استشارية فنية شكلها وزير الثقافة من مديرية الآثار ومهندسين واثريين للاطلاع على الوضع ورفع تقرير بهذا الشأن ليبنى على الشيء مقتضاه صباح اليوم الإثنين.