خلف ستائر الدولار المتفلّت والغلاء المتصاعد والدين المتراكم والشح المصرفي المتفاقم، تكبر يومًا بعد يوم معاناة شرائح شعبية واسعة انهكتها «حرب الاستنزاف» المالية والاقتصادية.
واذا كانت كل المؤشرات المتعلقة بنسب الفقر والبطالة والغلاء والهجرة التي سُجّلت في الاشهر الماضية، تدلّ الى ضغط غير مسبوق يتعرّض له المجتمع اللبناني، فإنّ ما يخشاه بعض العارفين هو ان تتطور الارقام السلبية في اتجاهات اكثر خطورة ودراماتيكية في الفترة المقبلة، ما يعني انّ عوارض الخريف أو الشيخوخة المبكرة قد تصيب الربيع القريب، إن لم تبادر الدولة الى تحصينه بواسطة «اللقاحات» الضرورية.
وفق احصاءات شركة «الدولية للمعلومات»، بلغ عدد المصروفين من القطاع الخاص (من دون احتساب القطاع الزراعي) نحو 15 الف موظف في الفترة الممتدة من تشرين الاول 2019 الى كانون الثاني 2020، إضافة الى خفض رواتب 50 الف موظف بمعدلات تتراوح بين 50 و 20 في المئة.
وحسب ارقام «الدولية للمعلومات»، يقيم نحو 55 في المئة من اللبنانيين حاليًا على خط الفقر او تحته، اذ انّ 25 في المئة منهم، اي ما يعادل مليون شخص، هم من «المعدمين» الذين لا يكفيهم دخلهم الشهري للحصول على الغذاء المطلوب، فيما يعجز 35 في المئة عن تأمين مستلزمات المسكن والملبس والطبابة والتعليم، وان يكن مدخول هذه الفئة يسمح لها بالحصول على الحد الادنى الضروري من القوت اليومي.
ولئن كان الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين يعتبر انّ الكلام حول صرف 220 الف موظف (منذ 17 تشرين الاول) من مؤسسات القطاع الخاص الذي يضمّ 650 الف شخص، انما ينطوي على تضخيم ومبالغة يخالفان حقيقة الواقع، غير انّه يلفت في الوقت نفسه الى انّ حالات الصرف وتقليص الرواتب التي سُجلت حتى الآن يشكّلان جرس انذار مدويًا، يجب الاخذ به والعمل بمقتضاه، قبل ان يحصل الأسوأ ويقع المحظور.
ويبدي شمس الدين خشيته من ان تتفاقم المعاناة الاجتماعية والمعيشية بمقدار كبير في آذار ونيسان المقبلين، اذا لم تتمّ المباشرة في معالجة اسبابها، محذّرًا من خطر حدوث انفجار شعبي في حال استمر الانحدار نحو قعر الهاوية، وخصوصًا مع احتمال صرف آلاف الموظفين والعمال في المرحلة المقبلة، بعدما يكون كثير من المؤسسات الخاصة قد فقد قدرته على الصمود، مشيرًا الى انّ هناك توقعاً أن يخسر 50 الف شخص اضافي اعمالهم خلال الاشهر القليلة المقبلة ما لم يتم تدارك النزيف.
وبهذا المعنى، فانّ ارتفاع منسوب البطالة، والزيادات الهائلة في اسعار السلع، وصعود الدولار، والقيود المصرفية القاسية، وتراجع القدرة الشرائية لدى اللبنانيين نتيجة تآكل رواتبهم بالعملة الوطنية.. كلها عوامل قد يؤدي تفاعلها الى تفلّت الوضع من السيطرة في لحظة ما، الامر الذي يتطلب من الحكومة ان تجيد استثمار مهلة السماح الضيّقة لاتخاذ اجراءات عاجلة تمنع السيناريو الدراماتيكي أو تؤجّله.
تحذير بري
هذا الواقع الصعب يرخي بظلاله القاتمة على عين التينة، حيث يتصدّر الهمّ الاقتصادي والمالي اولويات رئيس مجلس النواب نبيه بري في هذه الايام، خصوصًا انّه يستشعر غلياناً اجتماعياً متزايداً بفعل الضغوط التي يرزح تحتها المواطنون.
ويعتبر بري، انّ ما حصل في 17 تشرين الاول وبعده هو حراك وليس ثورة بكل ما للكلمة من معنى، «وما اخشاه اذا لم يتمّ احتواء الازمة الحالية في اقصر وقت ممكن، هو اندلاع ثورة جياع باتت كل ظروفها وشروطها مختمرة». ويضيف: «لم يعد الجوع شبحاً او احتمالاً فقط، بل للاسف هناك أناس اختبروا الجوع الحقيقي تحت وطأة الفقر المدقع».
وللدلالة على خطورة التداعيات التي يمكن ان تترتب على هذا الواقع، يكرّر بري التنبيه الى انّه «عندما يدخل الفقر من النافذة يخرج الإيمان من الباب»، مستعيدًا من باب التحذير والنصح القول الشهير: «عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه».
ويتابع: «تصوروا اي آثار مدمّرة قد تنتج من الفقر، ولذلك فإنّ الحكومة مدعوة الى عدم تضييع الوقت واتخاذ كل التدابير الضرورية لتخفيف اعباء التدهور الاقتصادي والمالي عن كاهل المواطنين الذين يكتوون بالبطالة وارتفاع الاسعار وتفلّت سعر صرف الدولار والإذلال امام المصارف».
وفي حين يشدّد بري على ضرورة ايجاد علاج جذري لـ«كورونا الكهرباء» التي استنزفت الخزينة، لا يخفي تحسسه من اي اشارة الى بواخر الكهرباء، في معرض مناقشته في الحلول الانتقالية، مؤكّدًا ضرورة التوقف عن الاعتماد على هذا الخيار حتى لو كان موقتاً.
ويستعيد بري تجربته الشخصية مع الباخرة التركية التي ارادوا لها ان ترسو على شاطئ الزهراني، «حيث رفضت آنذاك السماح لها بذلك، ما دفع بعض اهالي الجنوب الى القاء اللوم عليّ وتحميلي مسؤولية حرمان المنطقة من بعض ساعات التغذية، قبل ان يتبيّن لاحقاً انني كنت على حق في كل اعتراضاتي وملاحظاتي».
ويؤكّد انّ وزير المال السابق علي حسن خليل «قارب الملف الكهربائي وفق الاصول»، موضحًا أنّه طلب منه في احدى المرات التشدّد في تطبيق المعايير القانونية «بعدما اكتشفت انّ هناك من حاول بلا أي خجل ان يوظف علاقاته وان يتحايل على القانون حتى يجني ارباحًا جانبية او ينال سمسرة معينة على ظهر الكهرباء، ما دفعني الى الطلب من خليل ان يتشدّد في تطبيق الضوابط».