كتب نقولا ناصيف في “الاخبار”:
يحتاج وضع خطة لإنقاذ الليرة ومعالجة الأزمة الخانقة – وتالياً مباشرة تنفيذها وتوقع نتائجها واحتمال إبصار الخروج من النفق – الى وقت طويل، لا يصح أن يقاس سوى بأشهر طويلة وسنوات. هذا ما لا يقتضي انتظاره كي تقول حكومة الرئيس حسان دياب إنها قدمت إنجازاً.
ثمة ما يسع حكومة الرئيس حسان دياب ان تقدمه الى اللبنانيين في وقت قصير، بأن ترسل اكثر من اشارة الى الداخل والخارج في آن واحد، هو انجاز التشكيلات القضائية. قد يكون ابرز ما يمكن ان تشي به تشكيلات قضائية نزيهة، في ظل سلطة لم تقدّم يوماً، منذ اتفاق الطائف حتى انفجار الشارع في 17 تشرين الاول، دليلاً واحداً على انها نزيهة على الاقل. من شأن تشكيلات جدية اعادة الثقة بالقضاء المشوب بعورات، في بعض الاحيان لا تحصى، ورد الاعتبار الى العدالة والقانون، وفتح حقيقي لملفات الفساد والارتكابات لا توضع بين ايدي قضاة هم صنيعة القوى السياسية نفسها لعقود، وإخطار المجتمع الدولي بأن الاصلاح بوشر فعلاً من المؤسسة التي يُفترض، في حد ادنى، ان تكون فوق كل الشبهات.
ثمة عبارة لرئيس سابق راحل لمجلس القضاء الاعلى هو بدري المعوشي، قال مرة ان القضاة «ليسوا انصاف آلهة بل بشر يضعفون، ولذا يقتضي ان لا يتعرّضوا للتجربة». وهو ممن قاومها: اواخر عام 1966، بعد اسناد حقيبة العدل اليه على اثر استقالة وزيرها فيليب تقلا، استدعى رئيس الحكومة عبد الله اليافي رئيس مجلس القضاء الاعلى بدري المعوشي والمدعي العام التمييزي نبيه البستاني (جدّ وزيرة العدل ماري كلود نجم) الى مزرعته في بوارج، وكانا في صدد انجاز تشكيلات قضائية، وطلب منهما تعديل بعض الاسماء تزكية لقضاة رشحهم لمناصب مهمة. فرفضا. طوال ساعتين اخفق في اقناعهما بالموافقة على اقتراحه، فلم يستجيبا. حينذاك، كانت صلاحية وضع التشكيلات منوطة حصراً بمجلس القضاء الاعلى من غير اعطاء الوزير حق الاعتراض او التحفظ، كما حصل لاحقاً بعد اتفاق الطائف، الى حد يمكّنه من تعطيل احالتها على مجلس الوزراء وحجزها في جواريره، متى اصر مجلس القضاء على التشكيلات كما اعدها ورفض اي تعديل للوزير المختص عليها.
مع ذلك، منذ اتفاق الطائف، قلما قيل في تشكيلات قضائية انها نزيهة تماماً، خالية من المحاصصة وتقاسمها. ليس معقولاً ان يتوقع احد من الزعماء والسياسيين ان يكونوا نزيهين، ما دامت طرائق ممارستهم السياسة والزعامة لا تتطلبها. الا ان الامر ليس كذلك في المسألة الاصل، وهي ان تكون النزاهة صفة القضاة.
لم يعد بعيداً صدور التشكيلات القضائية الجديدة، الموضوعة بين ايدي مجلس القضاء الاعلى، وخصوصاً الثلاثي الرئيسي المعني بدرسها واقتراحها: رئيس المجلس سهيل عبود والمدعي العام التمييزي غسان عويدات ورئيس هيئة التفتيش القضائي بركان سعد. يعكف المجلس باعضائه الثمانية على اعداد مشروع التشكيلات في اجتماعات متلاحقة، تصل احياناً الى ساعات متقدمة من الليل، ويطلع وزيرة العدل ماري كلود نجم على مسار عمله.
منذ باشر مجلس القضاء الاعلى الإعداد للتشكيلات، ابلغت اليه الوزيرة انها لن تتدخل في اي اسم، ولا اسم لديها من القضاة ترشحه الى منصب، وسيكون عليها انتظار ما سيرفعه اليها المجلس للاطلاع عليه، والتحقق من التزام التشكيلات معيارين اثنين رئيسيين: اولهما الشمولية للقضاة جميعاً، وثانيهما المعايير الموضوعية في التشكيل بالاستناد الى الخبرة والسمعة الشخصية والاحتراف ومراعاة الاقدمية. في ضوء هذين المعيارين، من غير التفاتها الى اي اسم، تتبنى التشكيلات وترفعها الى مجلس الوزراء لاقرارها واصدارها، او تطلب تصويب ما قد يخل باي من هذين المعيارين. ما اكدته ايضاً انها لن تتنازل عن صلاحياتها في التحقق من تطبيق المعايير الموضوعية.
تأمل نجم انجاز التشكيلات في اقل من عشرة ايام، كي تمثّل اول انجاز لحكومة دياب. الخميس الفائت، قصدت رئيس مجلس النواب نبيه برّي للتعارف، وأطلعته على ما تعد له للوزارة، اضف التشكيلات القضائية، خصوصاً أن برّي سبق ان تولى الحقيبة في اول توزير له في حكومة الرئيس رشيد كرامي ما بين عامي 1984 و1989 في عهد الرئيس امين الجميّل.
في اللقاء قال رئيس البرلمان لوزيرة العدل: ليس عندي اي اسم ولا اريد احداً. اذا حصل استثناء وطلب احد ما اسماً، فسأكون أول الاستثناء.
منذ حكومة الرئيس عمر كرامي عام 1991، ثم على مرّ الحكومات المتعاقبة، لا احد ينسى العبارة التي اطلقها برّي حينذاك، ودرجت عند الخوض في اول تعيينات ادارية في حقبة ما بعد اتفاق الطائف: مَن يحضر السوق يبيع ويشتري. آنذاك قال العبارة التي رددها الخميس المنصرم: لا اريد احداً اذا لم يُرد احد احداً. اما اذا طلبوا، فسأكون اول مَن يطلب.
منذ ذلك الحين الى الان، الافرقاء يطلبون فلم يُستثنَ احد، في الادارة والقضاء والاسلاك العسكرية والامنية والمؤسسات ومجالس الادارة.
تستند وزيرة العدل في مقاربة التشكيلات الى بضعة معطيات:
1 – ضرورة شموليتها الجسم القضائي برمته، خصوصاً ان تجربة العقود الاخيرة اظهرت وجود ما يشبه طبقة قضاة يحظون بحماية سياسية، يعوّلون عليها للتناوب على المناصب القضائية الرئيسية، كما لو ان لو حماتهم متفقون على تداولها في ما بينهم لامرار مصالحهم. اكثر ما يبرز هذا الواقع القضاء الواقف لا سيما منهم قضاة النيابات العامة وقضاة التحقيق.
2 – تأمل من مجلس القضاء الاعلى وضع تشكيلات تأخذ في الاعتبار المعايير، لا التوافق الذي لن يعني في نهاية المطاف سوى العودة الى التسويات والمحاصصة. بناء على المعايير تُبنى، مع اصرارها على اتفاق المجلس لئلا تُنسف التشكيلات وتتعطل، وهو ما ترومه الطبقة السياسية التي تفضّل، في احسن الاحوال، تشكيلات على صورة التي اتبعت في السنوات الاخيرة جراء تدخلهم فيها لمواصلة دورة المحاصصة.
3 – بتعويلها على القضاء الواقف، تُبعث الروح في آلاف ملفات الفساد المعلقة. بلغ عددها ما يقرب من تسعة آلاف ملف تترجح لدى قضاة التحقيق، بفعل وطأة التدخلات والحمايات السياسية، ما بين الابطاء والتجميد. وحدهم قضاة التحقيق يرسلون الاشارات الجدية الى الدور المنوط بهم، باصدار مذكرات توقيف بالفاسدين والمرتكبين، في بلد بات معروفاً عنه استشراء الفاسد بلا فاسدين، ونهب المال العام بلا لصوص وسارقين، وارتكابات لا آباء لها.