كتب جورج شاهين في “الجمهورية”:
على مسافة 5 أيام من نشر موازنة 2020 في الجريدة الرسمية «خالية» من توقيع رئيس الجمهورية رفضاً منه لـ»عدم التصديق المُسبق» على قانون يتعلق بمسألة قطع الحساب عن العام 2018 قبل قانون الموازنة، تعددت الآراء حول الخطوة في شكلها وتوقيتها ومضمونها، ومنها السعي الى قطع الطريق على أيّ طعن يمكن أن يقدّمه أيّ كان أمام المجلس الدستوري. كيف ولماذا؟
ليست المرة الأولى التي يستنجد فيها رئيس الجمهورية بصلاحياته الدستورية لإمرار بعض الإستحقاقات الدستورية في المحطات المهمة وقطع الطريق على أي خطوة يعتبرها خروجاً على الأصول الدستورية، سواء لتجنّب الوصول اليها ما لم يضمن تعطيلها مسبقاً أو لقطع الطريق على أي طعن دستوري محتمل.
في 5 شباط الماضي أُحيل قانون موازنة 2020 من الامانة العامة لمجلس الوزراء الى المديرية العامة لرئاسة الجمهورية يحمل توقيعي رئيس الحكومة حسان دياب ووزير المال غازي وزنة، بعد يومين على إحالته من الأمانة العامة لمجلس النواب حاملاً توقيع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وفور وصوله الى القصر الجمهوري أحيل لى الدائرة القانونية لإبداء الرأي قبل ان يقرر رئيس الجمهورية توقيعه.
بعد أقل من أسبوعين على بداية المهلة الدستورية للتوقيع، رفض عون الخطوة لوجود عيوب دستورية، لم يرد القبول بارتكابها ولاسيما منها تلك المتّصلة بفقدان قانون «قطع الحساب» عن العام 2018 الذي كان من الواجب أن يسبق توقيعه توقيت البَت بقانون الموازنة. ففقدان قطع الحساب جاء في توقيت أعقبَ اتخاذ هذه المخالفة أبعاداً دستورية وقانونية سلبية لا يمكن تجاهلها، وكادت تودي بقانون الموازنة امام المجلس الدستوري عام 2018 لو لم يوفّر المجلس مَخرجاً لتجاوزها لأسباب وصفت بأنها وجيهة، ولمنع تعطيل عمل الحكومة وبيان الإنفاق والجباية بموجبها.
فالمادة 87 من الدستور التي تحكم هذه الحالة واضحة ولا تحتمل أي تفسير، وهي قالت ما حرفيّته «انّ حسابات الادارة المالية النهائية لكل سنة يجب ان تعرض على المجلس ليوافق عليها قبل نشر موازنة السنة الثانية التي تَلي تلك السنة». فالمجلس الدستوري ـ ولمعالجة الوضع الطارىء في حينه – أصدر قراراً استثنائياً في ايار 2018 عند البَت بالطعن المقدّم بموازنة ذلك العام، فصلَ فيه بين قانوني قطع الحساب والموازنة بالنظر الى الظروف الإستثنائية ومنعاً لإبطالها. لقد كانت البلاد على مدى 12 عاماً بلا موازنة عامة بكل مواصفاتها الدستورية نتيجة عدم قيام الحكومة بواجباتها طوال تلك الفترة. وأجاز القرار المُشار إليه يومها، ولمرة واحدة، البَت بالموازنة من دون قطع الحساب لئلّا يتعطّل عمل الحكومة وتتعطل آلية الصرف والجباية.
وتأكيداً لهذه القراءة، يكشف مرجع دستوري رفيع انه سبق لرئيس المجلس الدستوري السابق الدكتور عصام سليمان أن أبلغ الى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون أنه من المهم جداً ألّا تتكرر هذه المخالفة مرة أخرى، لافتاً الى انّ قرار المجلس الاستثنائي لم يكن لتشريع المخالفة ولا لتكرارها مرة أخرى. وترافقت مداخلة سليمان امام رئيس الجمهورية في حينه مع مخالفة أخرى ارتكبت عندما أقرّ مجلس النواب اقتراح قانون قدّمه النائب ألان عون منفرداً، وأجاز لنفسه البَت بموازنة 2017 من دون قطع حساب. ولو وجد يومها من يطعن بالقانون امام المجلس، لكانت المهمة سهلة لتجاوزه مضمون المادة 87 من الدستور. فقد تمّ غَض النظر عنها، فيما الجميع يدرك انّ مجلس النواب لا يحق له التشريع بما يتناقض والدستور.
بهذه القراءات الدستورية التزمَ رئيس الجمهورية ورفض توقيع قانون موازنة 2020، وترك للمهل الدستورية ان تقول ما لم يقله في حينه. وهو أمر يوجِب العودة الى المادة 56 من الدستور التي قالت ما حرفيته: «يصدر رئيس الجمهورية القوانين التي نصّت عليها الموافقة النهائية في خلال شهر بعد إحالتها الى الحكومة ويطلب نشرها». وبناء على ما نَصّت عليه هذه المادة، على الجميع ان ينتظر 5 آذار المقبل لنشر الموازنة في «الجريدة الرسمية» محرومة من توقيع رئيس الجمهورية، إيذاناً ببدء العمل بها. فهذا التاريخ يشكّل نهاية مهلة الشهر التي تحتسب من تاريخ إحالة قانون الموازنة الى الحكومة، والتي سجّلت في الامانة العامة لمجلس الوزراء في 5 شباط الماضي.
وعلى انّ الانتقال الى مرحلة ما بعد عملية النشر سيطرح سؤالاً وجيهاً يبحث عن إمكان وجود من يريد الطعن بالقانون نظراً الى حجم المخالفة المرتكبة. وعليه، يجيب مرجع دستوري انّ الحق بمراجعة المجلس الدستوري أُعطي اساساً لكل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة و10 نواب، فإن اراد احدهم الطعن أمام المجلس يمكنه القيام بذلك في مهلة تنتهي في 20 آذار المقبل التزاماً بمهلة الأسبوعين الفاصلة عن موعد النشر في «الجريدة الرسمية».
وعليه طرحت سلسلة من الأسئلة الوجيهة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
هل يمكن رئيس الجمهورية، الذي أعفى نفسه من توقيع القانون، ان يطعن به مجدداً امام المجلس الدستوري ضمن المهلة الآنفة الذكر؟ وهل سيكون هناك 10 نواب مستعدين لمثل هذه الخطوة، فالطعن مضمون جرّاء وجود المخالفات المنوّه عنها؟
وللإجابة عن هذه الأسئلة، يعترف العارفون انّ رئيس الجمهورية يمكنه أن يطعن طالما انه لم يوقّع القانون، ولكنه ليس مستعداً لهذه الخطوة أيّاً كانت الظروف. فالقرار في هذا الشأن سياسي وليس دستورياً، وبالتأكيد فإنه لا يريد تعطيل عمل الحكومة. امّا بالنسبة الى مبادرة النواب العشرة الى تقديم الطعن، فعليهم أن يدركوا سلفاً حال الحرج التي سيعيشونها، فالظروف التي تمرّ بها البلاد في ظل ما فرضه وباء «كورونا» من حال استنفار، وما زاد في الطين بلة اقتراب موعد النشر بفارق يومين من موعد تسديد قيمة سندات «اليوروبوندز» المحدد سلفاً في التاسع من الشهر المقبل، تُحتِّم صَرف النظر عن أي احتمال من هذا النوع.
وفي الخلاصة لا بد من الإشارة الى انّ «الهندسة الدستورية» التي اعتمدها القصر الجمهوري لإمرار الموازنة هذه المرة كانت مدروسة بدقة متناهية للحؤول دون الطعن بها، وإنّ ما جرى قد لَحظَ كل هذه العناصر معاً.