كتبت إيلده الغصين في صحيفة “الأخبار”:
قبل الكورونا كان هناك طاعون وكوليرا وملاريا وسلّ، وقبل مستشفى الحريري الجامعي كان «المحجر الصحي في الكرنتينا» الذي «تنازل» عن مهامه في الثمانينات بعد «تراجع الأوبئة» و«تقدّم الحرب». المحجر الذي قام على أنقاضه مستشفى ينتظر المناقصة لإتمام تجهيزه، لا تزال وصمته تطبع منطقة الكرنتينا وسكّانها
نحو خمسة كيلومترات هي المسافة الفاصلة بين مطار رفيق الحريري الدولي، المكان الأوّل الذي يطأه الوافدون من بلدان ينتشر فيها فيروس «كورونا»، ومستشفى رفيق الحريري الجامعي الذي صار مؤقتاً «المحجر الصحّي» للمصابين والحالات المشكوك بإصابتها. المستشفى والمطار ليسا لصيقين، ولا رابط بينهما إلاّ التحوّل الذي طرأ على اسميهما. بينما كان «محجر الكرنتينا»، قبل عشرات السنوات، ملاصقاً لمرفأ بيروت، وكانت الغاية منه استقبال ركّاب السفن و«البوابير» الملوّحة بشارة صفراء تشير إلى احتمال وجود مصابين بوباء فتّاك.
عام 2018 صدر مرسوم (الرقم 2461) لتعديل تسمية «مستشفى بيروت الحكومي – الكرنتينا» وإضافة «الجامعي» اليه. اسم المستشفى لم يأتِ نسبة إلى المنطقة التي يقع فيها (الكرنتينا – المدوّر)، بل إن المنطقة هي التي تُنسَب إلى المستشفى. وعبارة «الكرنتينا» جاءت من الـ «Quarantaine» (الكارنتين)، أي الأربعين يوماً التي كان الوافدون إلى مرفأ بيروت يقضونها في الحجر الصحّي خوفاً من نقلهم الأوبئة والأمراض إلى داخل المدينة وباقي البلد. ولكن، «مع تراجع الأوبئة في الثمانينات من القرن الماضي، إذ كانت تصل حالات معدودة خلال العام الواحد، ألغت الدولة الحجر الصحّي وتحوّل المحجر إلى عيادات»، بحسب الدكتور بول الجميل الذي كان مفوضاً للحكومة لدى المؤسسة العامة لإدارة مستشفى بيروت الحكومي الجامعي في الكرنتينا.
مستشفى الكرنتينا بشكله الحالي عبارة عن مبنيين. الأول هو المستشفى القديم بمساحته الشاسعة وطبقاته الثلاث التي تضرّرت بفعل الحرب، ولم يُعد تأهيل إلاّ الطبقة الأرضيّة منها وتحويلها إلى مستشفى متخصّصٍ بالأطفال وحديثي الولادة وقسم للعمليات الجراحيّة المتخصّصة. أما المبنى الثاني فقد بُني على أنقاض المبنى العثماني والمحجر الصحّي (كان المحجر قد تحوّل عيادات خارجيّة وموقفاً للسيارات). البناء الجديد يتّسع لثمانين سريراً، ويحتاج إلى بتّ مجلس الإنماء والإعمار بمناقصة تأمين المستلزمات الطبيّة والأسرّة، وهذا مرهون بوضع البلد المالي.
افتقاد محجر الكرنتينا لا يذكّر بضرورة استكمال تأهيل طبقاته الشاسعة، بل بضرورة أن تكون للبلد استجابة أسرع لحالات الطوارئ وأماكن جاهزة لاستقبال الحالات الشبيهة بحالات «كورونا». أستاذ علم المجتمع والأوبئة في الجامعة الأميركية في بيروت البروفيسور سليم أديب أوضح لـ«الأخبار» أن «محجر الكرنتينا كان على كتف حوض المرفأ، وكانت الباخرة إذا رفعت علماً أصفر يصعد إلى متنها الأطباء وينقلون ركّابها إلى جناح الحجر. استخدم مستشفى الكرنتينا استخدم كمحجر صحّي لغاية الثمانينات وكان عبارة عن جناح ملاصق للمستشفى فيه غرف يُنقل إليها الوافدون المشتبه بإصابتهم، وفي حال ظهرت عليهم عوارض يتمّ تحويلهم إلى المستشفى… بذلك لا يشغل المشتبه بإصابته سريراً مخصصاً للمرضى، وهكذا يُفترض أن يكون الوضع! مراكز الحجر يُفترض أن تكون تحت رقابة عسكريّة وفيلق طبّي لمنع محاولات خرق نظامها أو الهرب أو تلقّي الزيارات. المطلوب من الدولة البحث عن مكان فارغ مثل مستشفى متروك أو مدرسة مهجورة لتأهيلها لتكون مكاناً للحجر، من دون أن يشغل المحجور عليهم أسرّة المستشفيات». ويلفت الى أنه «في عام 1995 تفشّى الإيبولا في إفريقيا، وكان هناك لبنانيون في الكونغو، لكن لم تكن ثمة خطوط طيران مباشرة، ولم نحتج إلى الإجراءات الحاصلة اليوم،… لاحقاً ظهر إنفلونزا الخنازير وإنفلونزا الطيور والسارس وسواها. لذا كان يفترض التفكير، منذ ذلك الوقت، بإيجاد محجر صحّي وتأهيله لهذه الغاية.
كانت الباخرة إذا رفعت علماً أصفر يصعد إلى متنها الأطباء وينقلون ركّابها إلى جناح الحجر
لعنة «المحجر الصحيّ» لحقت بمنطقة الكرنتينا، أو ربما لحقت بالمستشفى لعنة المنطقة التي تحوّلت ملجأ للاجئين من مختلف الجنسيات، من دون ان تحظى بأي شكل من الإنماء والرعاية. الطبيب والمحلل النفسي الدكتور شوقي العازوري (شارك في وثائقي «القطاع صفر» للمخرج نديم مشلاوي عن منطقة الكرنتينا)، يشرح لـ«الأخبار» أن «أي مكان يأخذ طابع الحجر يخافه الناس وتحصل ردّة فعل سلبيّة تجاهه. هذا ما حدث مع منطقة الكرنتينا وقد يتكرّر لفترة معيّنة مع مستشفى الحريري وربما محيطه… لكنّ وطأة هذا الخوف ستنخفض كلما ابتعدنا زمنياً عن الحال الراهنة، أي مع تراجع حدّة المرض». ويشير الى «نوع من القلق موجود في البلد بسبب الكورونا، ولا طريقة علميّة لتهدئة الناس في هكذا ظرف. ففي الحالة الأولى التي وصلت من إيران، كانت ردة فعل الناس الفوريّة: إقطعوا خطوط الطيران معها! هذا الخوف ليس علمياً بل هو نوع من الهوس». وبشأن دلالة الكرنتينا «السلبيّة» في ذهن الناس، فإن «ثمة شريطاً أسود، والأكيد أنه ثمة علاقة بين الحجر سابقاً والمنطقة ككلّ، ولاحقاً الحرب والمجازر. للكرنتينا معنيان، المعنى التاريخي للمكان، والمعنى المتعلّق بمنطقة محدودة هي الكرنتينا التي كانت مهمّتها حماية لبنان كلّه مما يجعل خوفنا من المكان نفسه ينعكس على السكان القاطنين فيه. وكأنّها الحبس الذي يسجن فيه فيروس أو وباء، في حين أنه ليس كذلك بالمعنى الملموس. الأمر نفسه ينطبق على مستشفيات الطب النفسي مثلاً، وهي تُبنى دوماً خارج المدن وعلى أطرافها، كأنّها سجن يحمي البلد»، المشكلة مع التسمية «أنها تطبع مدينة أو منطقة لحماية شعب أو بلد، وهي حماية قد تكون مؤقتة إنما مفعولها يطول، وفي الوقت نفسه ثمة أذيّة للناس الساكنين فيها. والأكيد أن ثمة رابطاً بين الحجر وردّ الفعل النفسي لإبعاد الشخص الذي تريد حماية نفسك منه وعزله في مكان محدّد. وكأن المستشفى ليس وحده الكفيل بالحماية من الفيروس بل المنطقة التي بجواره، هذا الهلع يمكن أن ينعكس على المنطقة المحيطة بمكان الحجر أيضاً. لكنّه يتلاشى مع الزمن».
الكرنتينا تاريخياً
المحجر الذي أسّسه العثمانيون أضاف عليه الفرنسيّون. يذكر الدكتور حسّان حلاق في كتابه «المعالم التاريخية والأثرية والسياحية في لبنان والعالم العربي» (دار «النهضة العربيّة»)، أنه «في عهد ابرهيم باشا صار الأمر بتشكيل مجلس للصحة في بيروت وبناء محجر صحّي عُرف باسم «الكرنتينا». وقد شرع الأمير محمود نامي بتنفيذ المشروع بالتعاون مع القنصل الفرنسي في بيروت هنري غيز. وبذلك أُجبرت جميع السفن وركابها وبضائعها للخضوع وللفحص تحت إشراف المحجر الصحي قبل دخولها إلى بيروت، لا سيّما بعد انتشار الطاعون والأمراض المعدية في أوروبا» (الصفحة 118). كانت بيروت والمناطق اللبنانية خاضعة حينها، منذ عام 1831، للحكم المصري بقيادة ابراهيم باشا بن محمد علي. وكانت بيروت قبل ذلك «مدينة متواضعة يلفها السور شرقاً وغرباً وشمالاً وقبلة ويتخلّله سبعة أبواب»، وبعدما «جرى تعيين الأمير محمود نامي حاكماً ومحافظاً عليها لمدة 7 سنوات بين 1833 و1840، عرفت بيروت في العهد المصري إقامة مجالس منها: مجلس شورى بيروت وديوان الصحة وديوان التجارة».