لن يخرج لبنان قريباً من تحت تأثير ما يشبه «إعلان الإفلاس» الذي شكّله قرار تعليق دفْع استحقاقات الديون السيادية وأوّلها إصدار يوروبوندز 9 مارس، في ضوء ما يعنيه هذا التخلف عن السداد من الدخول في حقلِ ألغام سياسي – مالي – قانوني – اقتصادي – مصرفي تزيد من مَخاطره مؤشراتٌ داخلية إلى التعاطي مع هذا التحوّل التاريخي في سجلّ «بلاد الأرز» وما سيليه على أنه من ضمن مرحلة تأسيسيةٍ تكتمل معها مقوّمات «الجمهورية الثالثة» التي توالى «حفْر أساساتها» في الأعوام الـ 15 الأخيرة عبر مشاريع غلَبة سياسية وأمنية وعسكرية وصولاً إلى الاقتصادية.
وغداة القرار الصعب الذي أطلق عملياً مسار إعادة هيكلة للدين العام، بدا أن الآتي الأصعب لم يبدأ بعد وسط مخاوف متصاعدة من أن يكون لبنان ينتقل من حفرة إلى حفرة أعمق، ولا سيما بعد ما جاء «السقوط الكبير»، الذي أمْلاه بلوغ البلاد «نهاية الحبل»، بلا خطةٍ إنقاذية واضحة في خطواتها ومبرْمجة زمنياً ومن دون الأخذ بيد صندوق النقد الدولي لعملية bailout من شأنها أن تشكّل «باراشوت» يخفّف من تداعيات «قفزة التعثر» ويساعد بالتفاوض مع الدائنين الأجانب والأهمّ بتوفير السيولة التي تبقى المشكلة الأبرز للإبقاء على «آخِر شرايين» الحياة للواقع المالي – الاقتصادي – المعيشي.
وتدافعتْ الأسئلةُ الكبرى عشية أسبوعِ ما بعد التحاق لبنان بـ «قوس» الدول المتعثّرة وأبرزها:
* ماذا يخبئ الدائنون للبنان، المعزول عربياً ودولياً، في المفاوضات الشائكة لإعادة هيكلة الدين التي يفترض أن تنطلق بشكل رسمي مع حَمَلة السندات في غضون نحو أسبوعين، وسط محاذرةِ أوساط مطلعة الإفراط بالاطمئنان إلى ما نُقل عن عضو في مجموعة حاملي السندات اللبنانية من «اننا ندرك أن الحكومة تريد أن تتحلى بالتعقل وكذلك معظم الدائنين. هم يتفهمون أن البلد في موقف صعب»، معتبرة أن ترْك الاتفاق مع الدائنين الأجانب لِما بعد إعلان التخلّف الذي جاء غير منظّمٍ، هو سيف ذو حدّيْن في ضوء «رقعة الأضرار» الواسعة بحال فشل المفاوضات ودخول نفق المقاضاة الدولية المفتوح على المجهول.
* ما تأثيرات تعليق السداد على تآكل رأسمال المصارف التي اعتبر خبراء أن بعضها بات بحكم المفلس دفترياً بعد قرار الحكومة، وأي «ممرات آمنة» ستعمدها السلطة لتنفيذ ما قاله رئيس الوزراء حسان دياب لجهة «اننا لا نحتاج قطاعاً مصرفياً يفوق بأربعة أضعاف حجم اقتصادنا، لذا، يجب إعداد خطة لإعادة هيكلة القطاع المصرفي»؟ واستطراداً ما حدود إعادة الهيكلة للدين وهل ستشمل أصل الودائع؟ وهل مهّد لذلك دياب بتأكيده العمل على «حماية الودائع في القطاع المصرفي، ولا سيما ودائع صغار المودعين، الذين يشكّلون أكثر من 90 في المئة من إجمالي الحسابات المصرفية»؟
* من أين سينجح لبنان بحال بقي مصراً على رفْض دخول برنامج مع صندوق النقد الدولي في الاستحصال على سيولة بمليارات الدولارات هو بأمس الحاجة إليها أقله لتغطية استيراد مواد استراتيجية، ولا سيما في ضوء ما إشارة دياب في معرض تقديم «حيثيات» التخلف عن الدفع إلى «ان احتياطاتنا من العملات الصعبة قد بلغت مستوى حرجاً وخطيراً»؟
وعكستْ هذه الأسئلة المنحى البالغ الدقة الذي انزلق إليه الواقع اللبناني في ظل اعتبار الأوساط المطلعة، أنه رغم أن قرار تعليق الدفع كان لا مفرّ منه، إلا أنه لم يترافق مع خطة متكاملة بمقدار ما أن كلام دياب انطوى على وعودٍ لا يُعرف مدى القدرة على تطبيقها، ناهيك عن المعاني السياسية التي عبّرت عنها مواقف وضعتْ التخلّف عن السداد في سياق الإجهاز على المشروع الاقتصادي للرئيس رفيق الحريري، الأمر الذي عَكَسَ أبعاداً عميقة غير مرئية لهذا الخيار قد تشكل امتداداً لما كان نُقل عن رئيس الجمهورية ميشال عون في جلسة مجلس الوزراء الخميس الماضي من أن «المرحلة صعبة، لكنّ العمل مستمر بتصميمٍ لتأسيسِ الجمهورية الثالثة»، وهو الكلام الذي ورد في البيان الذي وزّعه القصر الجمهوري قبل أن يُعاد سحبه وتصحيحه وإدراجه في إطار «الخطأ المطبعي»، رغم ان إحدى الصحف اللبنانية نقلت عن عدد من الوزراء أنّ هذا الكلام قاله رئيس الجمهورية في مستهلّ الجلسة.
وفي موازاة ذلك، كان بارزاً موقف عضو المجلس المركزي في «حزب الله» الشيخ نبيل قاووق الذي مضى في وضْع «فيتو» أمام خيار اللجوء إلى صندوق النقد الدولي، إذ أكد ان «حزب الله يرحب بأي مساعدة خارجية شرط ألا يتم التسلل لفرض وصاية وهيمنة خارجية على لبنان وفي الوقت نفسه حريصون على الإصلاحات التي تشجع الجهات الخارجية على تقديم المساعدات. لبنان دخل في مرحلة جديدة، لأن الحكومة تعمل بنهج جديد ورؤية جديدة تضع لبنان على مسار الاقتصاد المنتج صناعياً وزراعياً، للخروج من أزماته».