Site icon IMLebanon

“عدم السداد” بداية مرحلة جديدة وتغيير في النموذج الاقتصادي

كتبت صحيفة “الأنباء” الكويتية: 

 

القرار الذي اتخذته الحكومة بـ «تعليق سداد استحقاقات اليوروبوند»، والذي حرص رئيسها حسان دياب على إعلانه شخصيا بوجه متجهم و«جدي» وبأسلوب واقعي وواثق، ليس مجرد قرار مالي تقني، وإنما ينطوي على أبعاد سياسية ويدشن مرحلة جديدة عنوانها الظاهر الانتقال من «الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج»، وإعادة التوازن الى المالية العامة، وإعادة هيكلة الدين العام، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ولكنها تؤشر في العمق الى بداية تغيير في وجه لبنان الاقتصادي وفي سياساته المالية.

وهذا ما يحدث للمرة الأولى، وما يبدو كافيا لوصف قرار الحكومة، القرار الاقتصادي الأصعب الذي يصدر عن الحكومة الأضعف، بأنه قرار تاريخي، ولوصف يوم 7 الجاري (يوم إعلان القرار) بأنه يوم مفصلي وما بعده ليس مثل ما قبله.

بعد 7 الجاري دخل لبنان نادي الدول المتعثرة المتخلفة عن سداد ديونها، غير القادرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية، وحيث تنطلق المؤسسات الدولية الدائنة في معركة استرداد أموالها.. بعد 7 الجاري يبدأ لبنان إعداد خطة لإدارة مرحلة التخلف والجدولة من دون بروز أي كلمة حول دور صندوق النقد الدولي الذي تمت الاستعانة به تقنيا من دون الاستعانة به استشاريا حول الإصلاحات الموعودة، والذي يدور حوله تباين بين أركان الأكثرية الحكومية أو الحاكمة التي اتفقت في موضوع السندات ولم تتفق بعد في موضوع صندوق النقد الدولي.
هناك من يرى نهاية للحريرية السياسية في مضامينها وعقيدتها الاقتصادية والمالية، وهناك من يرى بداية نهاية للنظام الاقتصادي اللبناني «الليبرالي الحر» وفي أقل تقدير بداية سقوط النموذج الاقتصادي المالي «الريعي» الذي ساد منذ ثلاثين عاما، والذي شكل القطاع المصرفي عموده الفقري ومرتكزه الأساسي.

لم يكن متوقعا لقرار من هذا النوع وبهذا الحجم أن يمر بهدوء ومن دون عاصفة انتقادات هذه عينة منها:

٭ يدخل لبنان اليوم نادي الدول المتوقفة عن الدفع مرة أولى في تاريخه. الإعسار المالي كشف على أزمة عميقة وصفها رئيس الحكومة حسان دياب ثلاثية متلازمة. أزمة عملة ومصارف وديون سيادية. ليعلن تعليق سداد لبنان التزاماته للدائنين الدوليين والذهاب إلى مفاوضات على إعادة هيكلة الدين. بقية ما تلاه دياب في بيانه المعد سلفا، كلام في صيغة المضارع والمستقبل، «سوف وسنعمل».

يعد قرار الحكومة اللبنانية عدم دفع مستحقات ديونها أول إعلان رسمي لفشل الحكم والدولة في لبنان، خاصة في الجانب الذي كان صمام أمان البلد منذ نشوئه، وهو الجانب المالي- المصرفي الذي كان يوازن ويعوض حالات التفكك الاجتماعي والهشاشة الأمنية وشبكة الفساد الزبائنية التي رسختها قوى الحكم الحالية.

هو بلاغ رسمي بأن لبنان لم يعد دوليا قادرا على الوفاء بالتزاماته المالية، ما يجعله عاجزا عن الوفاء بتعهداته وعقوده الاقتصادية وحتى القانونية تجاه أطراف اقتصادية وإنتاجية خارج لبنان، ما يهدد لبنان بحالة المروق الدولي (دولة مارقة)، ووضعه في وضعية عزل اقتصادي وحجر مالي، ويتسبب بصدور أحكام دولية بحقه تمس صلب سيادة الدولة واستقلال قرارها.

٭ واقعيا، ستفشل الحكومة في برمجة وجدولة الدين في ظل الأوضاع السياسية والاقتصادية المتفجرة ليس في لبنان فقط، بل في المنطقة كلها. وهذا يعني عمليا أن حكومة حسان دياب أعلنت إفلاس لبنان من دون اتخاذ أي تدبير جدي، بمعزل عن الكلام الجميل.

وفيما بعد، ستنهال الضغوط بشكل لم يسبق له مثيل، ولن تتمكن الحكومة من مواجهتها أو الصمود بوجهها.

لبنان دخل في مرحلة ضغوط متضاربة بين كل القوى السياسية والاقتصادية، بارتباطاتها الخارجية، وهذه ستنعكس حكما على وضع الشارع والبلاد ككل.

٭ السؤال الأول المطروح في المرحلة المقبلة، سيتعلق تحديدا بسبل توفير السيولة بالعملة الصعبة، وتحديدا لاستيراد الدواء والمحروقات والغذاء، وغيرها من السلع الحيوية التي تمس معيشة المواطنين.

وتصنيف الدولة اللبنانية كدولة متعثرة، سيعني ببساطة فقدانها القدرة على الوصول إلى مصادر الاستدانة في الأسواق الدولية، سواء من خلال البحث عن مكتتبين في إصدارات جديدة لسندات الخزينة، أو مشترين لشهادات الإيداع لدى مصرف لبنان.

ثمة ما هو أخطر هنا. فضرب التصنيف الائتماني للدولة اللبنانية سيؤدي تلقائيا إلى ضرب التصنيف الائتماني للمصارف اللبنانية أيضا، بالنظر إلى ارتباط معظم موجوداتها بأدوات الدين السيادي على شكل توظيفات في سندات الدين ومصرف لبنان.

وبالتالي، سيفرض على المصارف إما تقليص أو سداد تسهيلاتها لدى المصارف المراسلة، أو زيادة الضمانات المودعة مقابل هذه التسهيلات.

وفي الحالتين، ستكون المصارف أمام ضغوط تمويلية كبيرة، ستؤثر على ما تبقى من سيولة بحوزتها بالعملات الصعبة، مع العلم أن المصارف تعاني أساسا من شح التحويلات الخارجية منذ أكتوبر الماضي.

هذا النوع من المشاكل سيضع الدولة تلقائيا أمام مخاطر العجز عن تمويل الاستيراد، خصوصا أن الدولة تأخرت سنوات في إعلان تعثرها الصريح، وهو ما أدى طوال هذه الفترة إلى استنزاف عشرات المليارات من موجودات لبنان بالعملات الصعبة. وحسب جميع المعطيات، لا يبدو أن هناك أي خطة بديلة لدى الدولة اللبنانية لمعالجة هذه المسألة، سوى البحث عن رزم القروض القادرة على معالجة أزمة عجز ميزان المدفوعات، والتي يعد صندوق النقد الدولي المرشح التقليدي لها.

٭ بعدما أغلق لبنان سابقا باب المساعدات المالية من قبل الدول الخليجية والغرب نتيجة فشل الحكومات المتعاقبة في إجراء إصلاح حقيقي، أكمل دياب الحصار المالي على لبنان من خلال إغلاق بابين أساسيين للتمويل، هما:

ـ أولا: أخرج لبنان نفسه من المنظومة المالية العالمية كدولة لا تحترم التزاماتها لدائنيها، مغلقا على نفسه أي فرصة للتمويل الخارجي.

ـ ثانيا: برفض دياب وحزب الله القاطع لصندوق النقد الدولي، خسر لبنان إمكانية مساهمة الصندوق في إعادة الاقتصاد اللبناني إلى المسار المنتج من خلال تمويل إصلاحات ضرورية في عدة قطاعات وإطلاق العجلة الاقتصادية.

في المقابل، هناك من يجد أعذارا وأسبابا تخفيفية ويظهر تفهما لقرار الحكومة التي كانت عالقة بين خيارات السيئ والأسوأ، ووجدت نفسها أمام «شر لابد منه».. ويقول هؤلاء ممن يظهرون الرضى على حسان دياب ويوحون أنهم فوجئوا بأدائه الذي فاق التوقعات:

٭ إن الرجل لا يبدو، بشخصيته ومقاربته في العمل الحكومي، من طينة المتحايلين على الواقع. لذلك بكل بساطة هو مقل في الكلام وحين ينطق يثير زوبعة لأنه يوصف الواقع بكل قساوته وليس ما يطلبه المستمعون، وها هو يصدم في كلامه ويوقظ: استيقظوا نحن بلد مفلس بفعل الفساد والنموذج الاقتصادي المتبع منذ عقود، معلنا المباشرة بإعادة هيكلة ديون الدولة، عبر خوض مفاوضات منصفة وحسنة النية مع الدائنين، وإعادة التوازن الى المالية العامة.

يبدو الأمر مخيبا بعض الشيء. فهناك فئة كبيرة من اللبنانيين تعودت على أن يكذب الحاكم عليها ويبقيها مخدرة، ولذلك حين يأتي من يصارحها بأن الدولة لم تعد قادرة على حماية شعبها، وهو توصيف دقيق جدا، وإن احتياطنا من العملات الصعبة قد بلغ مستوى حرجا وخطيرا ولن تكون الدولة قادرة على تسديد الاستحقاقات المقبلة، تنقض عليه لأنها لا تحتمل من يعري أمامها كافة الحكومات المتعاقبة الشريكة في جرم إفلاس الدولة.

٭ الحكومة اتخذت قرارها وهي واقفة عند مفترق الطرق الخطير الذي تقف على أعتابه البلاد. فإما سلوك خيار الإنقاذ والبحث عن خيارات اقتصادية أخرى غير تلك التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه من انهيار متسارع، وإما إضاعة الفرصة وإعادة تعويم النظام الاقتصادي الحالي بصيغ جديدة، أكثر شراسة في سحق الشعب وتعميق الفروق الطبقية والانقسامات الطائفية والمذهبية.

٭ لعل أكثر ما ميز خطاب دياب الذي بدا بمنزلة «البيان رقم واحد» أو البيان الوزاري رقم 2، هو «الشحنة» الوجدانية العاطفية للتأثير على الشارع والرأي العام، واجتذاب التأييد لهذا القرار الذي صوره دياب بأنه اتخذ ضمانا لأموال المودعين ودفاعا عن حقوق الطبقة الفقيرة، ولتأمين المواد الأساسية الإستراتيجية من دواء وغذاء.