كتبت راكيل عتيق في “الجمهورية”:
درجت العادة قبل عام 1990، على أن تُعطى الحكومات صلاحيات تشريعية استثنائية، خصوصاً في بداية العهود الرئاسية. وصدرت أهم القوانين اللبنانية التي لا تزال سارية حتى الآن، بمراسيم اشتراعية، أبرزها تلك التي أُقرّت عام 1959 في بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب، الذي كان يريد انطلاق عهده بزخم من خلال الإنجاز وتحقيق الإصلاحات سريعاً. إلّا أنّ تفويض مجلس النواب الحكومة صلاحيات تشريعية توقّف بعد «اتفاق الطائف»، في ظلّ رفض رئيسَي مجلس النواب حسين الحسيني ونبيه بري.
ومع استفحال الأزمة الإقتصادية – المالية الراهنة، والحاجة الملحّة الى إقرار قوانين تساهم في مكافحة الفساد وتحقيق الإنقاذ سريعاً، ترى جهات عدة ضرورة في إعادة تفعيل هذه الممارسة ومنح حكومة الرئيس حسان دياب صلاحيات استثنائية للتشريع في سبيل «مواجهة التحديات».
لا شك أنّ «انتفاضة 17 تشرين» فرضت وقعها على مكونات السلطة وممارسة الحُكم. إلّا أنّ السلطة لم تشهد تغييراً بعد هذا التاريخ، إلّا على صعيد الحكومة التي أُلّفت على أنها حكومة تكنوقراط، على رغم تسمية وزرائها من قبل فريق 8 آذار السياسي. وأتت هذه الحكومة لـ»مواجهة التحديات» في ظلّ وضعٍ صعب وأزمات حادة.
وإذ يترقّب اللبنانيون الخطة الإصلاحية التي ستعلن عنها الحكومة قريباً، ترى جهات عدة أنّ هناك ضرورة لإعطاء الحكومة صلاحيات تشريعية للأسباب الآتية:
– لكي تُعطى الأدوات اللازمة للعمل ولتتحمّل في الوقت نفسه مسؤولية فترة حكمها.
– لكي تترجم خطتها في مراسيم إشتراعية، وذلك بسبب ضيق الوقت إذ إنّ سرعة قطار الانهيار تتضاعف، ويتطلّب الأمر إقرار التشريعات اللازمة في مجلس النواب كثيراً من الوقت وفق آليات عمل المجلس.
– النزاعات السياسية بين الكتل النيابية قد تعوق إقرار أيّ قانون.
– لأنّ مجلس النواب المؤلّف من القوى السياسية الرئيسية التي استلمت السلطة منذ عشرات السنوات، فقدَ ثقة الشعب.
وفي حين أنّ الحكومة لم تطلب منحها هذه الصلاحية حتى الآن، يرى النائب شامل روكز، وعلى رغم عدم منحه الحكومة الثقة، أنّ «العمل في مجلس النواب يسير ببطء بينما الوقت يداهمنا والأزمة تأكل البلد»، داعياً عبر «الجمهورية» الى «إعطاء الحكومة صلاحيات استثنائية في الشؤون المالية والإقتصادية والنقدية، لإقرار القوانين سريعاً، ولكي تتحمّل مسؤولية فترة الحُكم التي تتولاها». وإذ يؤكد حرصه على «عمل مجلس النواب الذي يمثّل الشعب، وهو المؤسسة الأم في البلد»، يرى أنّ «الوضع الراهن الخطير يتطلب سرعة، لأننا في سباق مع الأزمة».
ويؤكد البعض ضرورة إعادة تفعيل منح الحكومة صلاحيات استثنائية للتشريع في الظروف الاستثنائية، على رغم من أنّ الدستور يمنحها صلاحية إقرار القوانين في حالة محددة في المادة 58، التي تنصّ على أنّ «كلّ مشروع قانون تقرّر الحكومة كونه مستعجلاً بموافقة مجلس الوزراء مشيرة إلى ذلك في مرسوم الإحالة، يمكن لرئيس الجمهورية بعد مرور 40 يوماً من طرحه على مجلس النواب، وبعد إدراجه في جدول أعمال جلسة عامة وتلاوته فيها ومرور هذه المهلة من دون أن يبتّ فيه، أن يصدر مرسوماً قاضياً بتنفيذه بعد موافقة مجلس الوزراء». لكن هذه الصلاحية مرتبطة باستنسابية رئيس مجلس النواب، الأمر الذي يُفرغ هذه المادة من مضمونها وهدفها.
ويوضح النائب والوزير السابق المحامي بطرس حرب أنّ «هذه المادة تغفل تحديد مهلة لطرح رئيس مجلس النواب مشروع القانون على المجلس، وتخوّله وضع مشروع القانون المُرسل من الحكومة في الأدراج. وبما أنّ الحكومة لا يُمكنها إصدار هذا المرسوم إلّا بعد انقضاء 40 يوماً من طرحه على مجلس النواب، وطالما أنّ هذه المادة تمنح رئيس مجلس النواب صلاحية مطلقة من دون تحديد أي مهلة لطرح مشروع القانون على المجلس، فهذا يعني أنّ الصلاحية المعطاة للحكومة في المادة 58 سقطت».
إنطلاقاً من ذلك، يقول حرب لـ»الجمهورية»: «إذا كان هناك تدابير مستعجلة على الحكومة اتخاذها، فلا يوجد نص دستوري يمنعها من التوجّه الى مجلس النواب لطلب صلاحيات استثنائية للتشريع، لكي تصدر المشاريع التي أعدّتها ضمن خطة إصلاحية متكاملة بمراسيم اشتراعية». وبالنسبة الى الوضع الراهن، يرى أنّ «الحكومة الحالية إذا كانت مقتنعة بضرورة ترجمة خطة عملها في مشاريع قوانين معجلة، وإذا كانت تملك الشجاعة، عليها أن تتوجّه الى مجلس النواب لطلب صلاحيات تشريعية استثنائية، وأن تعلّق استقالتها على منحها هذه الصلاحيات. فإذا مُنحت صلاحية تشريعية استثنائية تُمارسها تحت رقابة المجلس، وإذا لم تُمنح هذه الصلاحية تستقيل، ويتحمّل مجلس النواب مسؤوليته».
وعلى رغم من عدم وجود نص دستوري يمنع إعطاء مجلس النواب صلاحيات استثنائية للحكومة لكي تشرّع، يعتبر البعض أنّ هذه الممارسة طُويت مع «اتفاق الطائف»، إذ إنّ التعديلات الدستورية حوّلت النظام اللبناني من شبه رئاسي الى برلماني. وجهة النظر هذه يبدّدها الوزير السابق المحامي زياد بارود، الذي يوضح أنّ «مجلس النواب يفوّض الحكومة صلاحية التشريع بقانون يحدّد فيه مجالات هذا التشريع وفترته الزمنية، ولا يُعتبر هذا التفويض تخلّياً من مجلس النواب عن دوره، إذ يُمكنه أن يتدخّل لاحقاً في كل مرة تتخطى الحكومة المجال المُعطى لها للتشريع ويُلغي المراسيم الاشتراعية التي تتخطى قانون التفويض».
ويشرح بارود لـ»الجمهورية» أنّ «مبدأ فصل السلطات لا يمنع مجلس النواب، وهو إحدى السلطات الدستورية، من أن يفوّض الحكومة وهي سلطة دستورية أخرى بإصدار تشريعات في مواضيع محددة وخلال مدة محدودة، إذ إنّ هذا الأمر جزء من التعاون بين السلطات، وقد نصّت مقدمة الدستور على التعاون بين السلطات على رغم فصلها».
ويرى أنّ هذه الحكومة كان يجب أن تطلب في بيانها الوزاري من مجلس النواب صلاحيات تشريعية استثنائية في 3 مجالات مهمة وملحّة: مكافحة الفساد، استقلالية القضاء وقانون الإنتخاب.
وعلى رغم هذه الحاجة، ترفض جهات عدة منح الحكومة صلاحيات تشريعية استثنائية. وإذ «قاوَم» بري هذا الطلب منذ انتخابه رئيساً لمجلس النواب عام 1992، بحجّة تهميش المجلس والمَس بالنظام البرلماني الذي كرّسه «اتفاق الطائف»، إلّا أنّ العامل الطائفي يبقى هو الغالب في الممارسة السياسية في لبنان، ويردّ البعض سبب إصرار بري على عدم تفويض الحكومة صلاحيات تشريعية الى أنّ هذا التفويض يُعتبر تنازلاً من السلطة التي يترأسها «شيعي» للسلطة التي يترأسها «سني».
وقال بري في كلمته بعد انتخابه عام 2005: «لقد تصدّينا لكل محاولة جَرت لمنح صلاحيات استثنائية لأيّ من الحكومات، وقاوَمنا كما لم يفعل أيّ مجلس على مساحة الديموقراطيات المعاصرة كلّ محاولة لتهميش المجلس، ورفضنا كلّ إغراء في حالات الأزمات السياسية أو العجز، لأخذ المبادرة والتصرّف كنظام مجلسي انطلاقاً من التزام جميع العناصر والاتجاهات التي شكّلت مجلسنا في ما بعد «اتفاق الطائف» بالنظام البرلماني الديموقراطي». وفي أول جلسة تشريعية للمجلس النيابي بعد الانتخابات الأخيرة عام 2018، رفض بري إعطاء حكومة الرئيس سعد الحريري أيّ صلاحيات استثنائية للتشريع في ملف النفايات. وقال: «أيام الرئيس الشهيد رفيق الحريري لم نعطِ الحكومة صلاحيات استثنائية في مجال التشريع، ولن نعطيها الآن».
ويرى رئيس لجنة متابعة تنفيذ القوانين النيابية، عضو كتلة «التنمية والتحرير» ياسين جابر أنّ على الحكومة البدء بتنفيذ التشريعات القائمة قبل أن تطلب تشريعات جديدة»، مشيراً عبر «الجمهورية» إلى أنّ هناك قوانين منظمة لكلّ القطاعات التي تتطلب إصلاحات، مثل الكهرباء والإتصالات والطيران، وعلى الحكومة تنفيذ هذه القوانين بدءاً من تعيين الهيئات الناظمة، وهذه الإصلاحات تطلبها الجهات المانحة». ويلفت الى أنّ هناك 54 قانوناً غير مُطبّق، وهذه القوانين كفيلة في حال نُفّذت بتحقيق إصلاحات ووضع لبنان على سكة دول القانون والمؤسسات، منها قانون النقد والتسليف الذي يقضي بتعيين نواب مستقلّين لحاكم مصرف لبنان ولجنة جديدة للرقابة وهيئة أسواق المال العام، وقانون رقم 44 حول تبييض الأموال واتفاقية مكافحة الفساد التي أعَدّتها الأمم المتحدة».
وإذ يسأل: «مَن عَطّل نتائج المباريات التي ينظّمها مجلس الخدمة المدنية؟ أليست الحكومات برفض توقيع المراسيم والتعيينات؟ ومن لم يطبّق القانون الذي يوسّع ملاك ديوان المحاسبة»؟ يؤكّد أنّ «المطلوب الآن هو قرار وليس قانوناً».
الى الرفض لأسباب ميثاقية – طائفية – دستورية، ستُجابه حكومة «اللون الواحد» الحالية، إذا قرّرت الطلب من مجلس النواب منحها صلاحيات تشريعية استثنائية، برفضٍ لأسباب سياسية، حتى من القوى التي كانت تطالب بمنح حكومات سابقة هذه الصلاحيات، مثل تيار «المستقبل»، الذي لم يمنح هذه الحكومة الثقة. وتقول مصادر التيار لـ»الجمهورية»: «في ظل عقلية من ألّفوا هذه الحكومة، إنّ إعطاءها صلاحيات استثنائية لتُشرّع من دون الرجوع الى رأي القوى السياسية في مجلس النواب «أمر كبير» ليس وقته الآن».
كذلك، يرى حزب «القوات اللبنانية»، الذي يُشكّل الآن أكبر كتلة نيابية مسيحية معارضة، أنّ «قبل الكلام عن إعطاء الحكومة صلاحيات استثنائية للتشريع في سبيل الإنجاز، يجب على هذه الحكومة إذا كانت تملك الإرادة والقرار، اتخاذ مجموعة خطوات لا تتطلب صلاحيات تشريعية، مثل إصلاح ملف الكهرباء وإقفال المعابر غير الشرعية ووضع حد للهدر في المرفأ والجمارك».
وتقول مصادر «القوات» لـ»الجمهورية»: «حين يلمس الناس خطوات إصلاحية فعلية ونيّة جدية لدى الحكومة لمعالجة الخلل المالي والإقتصادي، وإذا لم يساعدها مجلس النواب بتسريع خطواتها سيتحمّل هو مسؤولية التأخير أمام الرأي العام اللبناني». وتعتبر أنّ السؤال الأساس هو: «هل تملك الحكومة القدرة؟ وهل أنّ القوى المكوّنة أو المشكّلة للحكومة ستسمح لها بالعمل؟ فماذا ينفع إعطاؤها صلاحيات إضافية إذا لم تكن عازمة على اتخاذ قرارات»؟.