كتبت كلير شكر في “نداء الوطن”:
قبل سيطرة “الكورونا” على المعابر الجوية والبرية والبحرية، حاولت الانتفاضة الشعبية استعادة بعض من نبضها وعمد بعض “ثوارها” إلى إقفال عدد من الطرقات، ولو لساعات محدودة قبل أن تتدخل القوى الأمنية لإعادة فتحها.
تدهور الوضع المعيشي بشكل دراماتيكي والذي يعبّر عنه الارتفاع الجنوني في سعر صرف الدولار، مقابل سياسة القطارة التي تعتمدها الحكومة للكشف عن اجراءاتها العلاجية، هو الذي كان يدفع الناس إلى تحمية محركات الشارع، والاستعانة بالطرقات للتعبير عن غضبهم وسخطهم من انزلاق الوضع المالي والنقدي نحو الهاوية أكثر.
حتى الحكومة، وعلى أثر قرارها بتعليق دفع مستحقاتها الخارجية من الديون، بدت في حال ترقّب شديد الحساسية ازاء ما يمكن لرمال الانتفاضة المتحركة أن تحدثه كردّ فعل على القرار التاريخي الذي اتخذته الحكومة بتعليق سداد سندات اليوروبوندز، حيث كانت الخشية من اشتعال الشوارع من جديد على وقع الخطوات الحكومية المنتظرة بين جلسة وأخرى. ولكن الحراك الشعبي أبدى بعض الخجل، لا بل ثمة من يقول إنّ الانتفاضة “علقت” نشاطها ليس بفعل ضربة قاضية وجّهتها السلطة، ولكن نتيجة انتكاسات تعرّضت لمسارها وعرضت عمقها للضرب.
قبيل صدور قرار المدعي العام المالي علي ابراهيم بحق المصارف والذي أعاد تذكير الناس بأنّ مدخراتهم صارت أشبه بأوراق اللوتو الخائبة التي تسحب أسبوعياً وسرعان ما ترمى في سلة المهملات فعادوا إلى الاستعانة بحناجرهم، كان رئيس حزب “القوات” سمير جعجع يطمئن ويؤكد أنّ “الحراك لم ينقطع لحظة واحدة ولو خفّت وتيرته وتراجعت في الشارع أخيراً، ذلك لأنّ أساس الحراك موجود في قلوب الناس بمعزل عن متى وكيف يُترجم في الشارع، الأمر الذي يعود للظروف والمناخ العام”.
ولكن فعلياً، بعد أكثر من أربعة أشهر على اندلاع “ثورة 17 تشرين”، بدا مشهد الشارع مختلفاً. كانت بعض المجموعات المنتفضة لا تزال تعمل باللحم الحيّ لتبقي نبض الشارع موجوداً، وتسعى لإعادة بثّ روح الثورة بين الناقمين على السلطة والوضع برمته. ولكن محاولاتها لم تنجح حتى اللحظة. أما الأسباب فكثيرة:
– أولها، خروج مؤيدي أحزاب السلطة من الشارع، وأبرزهم الذين يدورون في فلك “القوات” التي خاضت جولات كثيرة من الالتحام مع “الثوار” لا سيما في المناطق المسيحية، لكنها فضلت في الفترات الأخيرة التراجع إلى الصفوف الخلفية لاعتبارات عدة، منها منح الحكومة فرصة ولو محدودة كي تحاول انتشال الوضع المالي والاقتصادي من قعره، ومنها لعدم رغبتها في تكبير حجر الحراك الشعبي الذي خذل “القوات” في دعمه لها خلال الاستحقاقات النقابية الأخيرة. كذلك الأمر بالنسبة لـ”تيار المستقبل” الذي يقف للحكومة على “الكوع”. علماً بأنّ تسلل الأجندات السياسية إلى الحراك أفقده بعضاً من صدقيته أمام الرأي العام المستقل.
– ثانيها، التخبط الذي أصاب المجموعات “الثورية” بعدما رفضت تشكيل قيادة مشتركة، والأهم عجزها عن صياغة برنامج أو رؤية مشتركة تعبّر عن وجهة نظرها لتشكل منصة جذب للرأي العام. وهنا يتردد أنّ مسؤولاً بارزاً سمع خلال زيارته الأخيرة إلى باريس كلاماً عن احباط الادارة الفرنسية من الحراك اللبناني كونه لم ينجح في الصمود أو في تطوير نفسه ليكون بمثابة حالة مساءلة للسلطة تمهيداً ليكون حالة بديلة عنها في مراحل مستقبلية.
– ثالثها، التحوير الذي أصاب مسار الحراك، لا سيما بفعل تأثير “التيار اليساري” الذي أخذه إلى أماكن غير مقنعة بالنسبة لكل الحراك ومؤيديه. وهذا واحد من مكامن الخلل. إذ صوبت المجموعات اليسارية كل أسهمها على المصارف محملة اياها مسؤولية المصائب التي تضرب اللبنانيين، بشكل قد يسهم في ضرب عمق النظام الاقتصادي وأحد أساساته من دون تقديم علاج متكامل وشامل وبديل، لأن تحميل المصارف وحدها المسؤولية فيه انحراف للقضية ولحيثيات الأزمة وبالتالي لمعالجاتها، وفي ضرب الحراك من جهة أخرى. وهذا ما قد يساهم في انحراف الحراك وفقدانه بعضاً من صدقيته أمام الرأي العام، خصوصاً وأنّ بعض القوى السياسية استفاد من هذا الانحراف لينقضّ بدوره على القطاع المصرفي عبر تحميله “وزر” الأزمة، مع العلم أنّ مسبباتها متنوعة فيما مكامن الهدر والفساد في مكان آخر ويفترض بالحكومة التركيز على كل هذه المواقع لتصحيح خلل المالية العامة.
وفي موازاة هذه الأخطاء، ثمة من يشير إلى أنّ بعض المجموعات المنَظّمة في الحراك، كانت “تتكاسل” عن سابق تصميم في تفاعلها مع المسار الحكومي لا سيما في شقّه المالي، وذلك من باب منح الحكومة فرصتها البديهية والطبيعية والمقدّرة عادة بمهلة المئة يوم، أو الشهرين بالحدّ الأدنى. ولذا تواصل رصد الأداء الحكومي بانتظار فصل الخيط الأبيض عن الأسود قبل أن تقول كلمتها.
ولكن هل سينتظر الشارع هذه المهلة؟
ثمة من يقول إنّ البركان الاجتماعي قد ينفجر في أي لحظة تحت وطأة الضغوط المعيشية والاقتصادية التي قد تحول انتفاضة 17 تشرين إلى “ثورة جياع” لن يرحموا من في السلطة ولا من وراءهم، اذا ما قرروا التشمير عن زنودهم غضباً. وهو سيناريو محتمل طالما أنّ المعالجات الحكومية تأتي بالقطارة، وقد لا تتمكن من سدّ الثغرات واعادة الأوضاع إلى حالتها الطبيعية.