كتب طوني عيسى في صحيفة “الجمهورية”:
أخذ الإيرانيون نفَساً عميقاً في المواجهة المفتوحة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. في اعتقادهم أنّ الصمود أشهراً أخرى على الأقل، أي حتى الخريف، يستحق العناء. فقد يفشل ترامب في تجديد ولايته وتتاحُ الفرصة لتكرار نموذج باراك أوباما. وهذا «الصبر» الإيراني يُترجَم في لبنان أيضاً تعايشاً صعباً بين «حزب الله» والأميركيين.
منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية في إيران (1979) و»حزب الله» في لبنان (1982)، يدور صراع ساخن بين إيران والولايات المتحدة على الساحة اللبنانية. هو ظاهر حيناً ومستتر أحياناً، ويتخذ طابع التوافق حيناً والتصادم أحياناً، ويشهد جولات عنف حيناً وديبلوماسية أحياناً، وفقاً للظروف الإقليمية والدولية ولاختلاف العهود التي تقلَّبت في واشنطن، بين الجمهوريين والديموقراطيين.
المرحلة اليوم تشهد مواجهةً مباشرة وعنيفة. وقد جرى التعبير عنها خصوصاً باغتيال الولايات المتحدة قائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني ورفاقه في العراق، وفي العقوبات الأميركية التي تزداد حدّة على إيران و»حزب الله» في لبنان، وفي الضربات الإسرائيلية المتواصلة لمواقع تعود إلى إيران و»الحزب» في العمق السوري.
يريد الأميركيون إبعاد إيران عن حدود إسرائيل، وتعطيل مسعاها إلى الإطلالة على البحر الأبيض المتوسط، البقعة البالغة الأهمية استراتيجياً في العقود المقبلة، سواء عسكرياً أو اقتصادياً، حيث الأساطيل والقواعد العسكرية والآبار الهائلة من الغاز والنفط والصفقات التجارية بين الدول المتجاورة من شمال إفريقيا إلى غرب آسيا وجنوب أوروبا ووسطها.
ويشكّل ترامب عامل قلق لطهران، بعد فترة «مثالية» مع أوباما جرى تتويجها باتفاق فيينا (2015). ويدرك الإيرانيون أنّهم عاجزون عن تحقيق الانتصار على الولايات المتحدة، لكنهم يعتقدون بقدرتهم على منع الانكسار، لعلّ الوقت يتيح لهم تحسين الشروط، إذا وصل الديموقراطيون مجدداً إلى البيت الأبيض.
وفي لبنان، النهج الذي يعتمده «حزب الله» هو نفسه. ومن سوء الأقدار أن يجد «الحزب» نفسه مضطراً إلى انخراطٍ أعمق في المواجهة، بعد اغتيال سليماني، فيما المصلحة اللبنانية تقتضي إبقاء خطوط التماس مع الأميركيين باردة، فلا ينفجر البلد مع بلوغ صراع المحاور درجة الغليان.
عملياً، يوحي «الحزب» بأنّه فكّ ارتباطه إلى حدّ بعيد بحروب سوريا والعراق واليمن، لكن له مشاركة ميدانية فاعلة في المعارك، على مستوى المقاتلين كما على مستوى القيادة. أما في لبنان فهو ينتهج خطاً أكثر مهادنة وواقعية مع الأميركيين. وأساساً، هو يعرف أنّ لبنان لا يمكن أن يعيش معادياً للأميركيين.
فيحرص «الحزب» على استمرار التعايش مع الولايات المتحدة في لبنان، مهما كلّفه ذلك. وتشكيل حكومة الرئيس حسّان دياب يشكّل في بعض وجوهها ترجمة لهذا التعايش. فهي وُلدت في كنف التجاذب بين قوتين أساسيتين: واشنطن وطهران. وكل منهما يشدُّ القبضة لتحقيق أكبر مقدار من النفوذ.
وعلى مدى الأسابيع الأخيرة، برزت مؤشرات لافتة إلى حال التعايش الصعب التي يقيمها «الحزب» مع الإدارة الأميركية في لبنان. فهو يدرك أنّ عناصر القوة الأساسية في البلد يدعمها الأميركيون، وتحديداً النظام السياسي والجيش والمصرف المركزي والنظام المصرفي، كما يعبّرون عن دعمهم الحراك الشعبي الذي انطلق في 17 تشرين الأول. ولذلك، تجنّب «الحزب»، ويتجنّب، أي مسّ بهذه العناصر لئلا يصطدم بواشنطن أيضاً.
ومن المؤشرات أيضاً، أنّ «الحزب» ترك لحليفه في الطائفة، الرئيس نبيه بري، أن يختار النهج المناسب للتفاوض على ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وهذا مطلب أميركي مُلِحّ.
وكذلك، أعطى موافقته المتدرّجة، ولكن الواضحة، على دورٍ لصندوق النقد الدولي في عملية الإنقاذ المالي والاقتصادي، على رغم معرفته أنّ واشنطن لها شأن في إدارته. وفي أي حال، سبق الإيرانيون أنفسهم «حزب الله» إلى صندوق النقد، إذ طلبوا دعماً بـ5 مليارات دولار لمواجهة وباء «كورونا».
وثمة مَن يستبعد أن تكون عملية الإخراج القضائية لملف عامر الفاخوري قد تمّت من دون «قبّة باط» من «حزب الله»، تماماً كما كانت عملية توقيفه. فالملف كان موضع اهتمام أميركي بالغ، خصوصاً في الفترة الأخيرة.
فقد بدا أنّ الأميركيين ليسوا مستعدين للتراجع. أما لبنان فلا يمتلك أوراق القوة التي تسمح له بالمواجهة حول الملف، فيما يكافح للحصول على مساعدات دولية من جهة، ولتجنّب الكوارث التي قد تأتي من بوابة الدائنين.
وأبرز هذه الكوارث، مصادرة الموجودات اللبنانية في الخارج أو تجميدها إلى أجل غير مسمّى، وتوسيع العقوبات أو فرض عقوبات جديدة على قوى وقطاعات لبنانية. فليس خافياً أنّ الضغوط أو الوساطات السياسية هي الأساس في منع هذه الكوارث.
سيحافظ «حزب الله» على تعايشه الصعب مع واشنطن تحت عنوان «تقطيع المرحلة» بأقل ما يمكن من أضرار. ففي التكتيك العسكري يتمّ الاكتفاء بالمراوحة العسكرية عندما لا تتوافر ظروف الانتصار في المعركة.
ولكن، أولاً، هل ستنجح فعلاً مراهنة إيران على فشل ترامب والمجيء برئيس جديد إلى البيت الأبيض في الخريف؟ وثانياً، هل يضمن الإيرانيون و»حزب الله» أن يكون أي خلفٍ لترامب، ولو كان ديموقراطياً، أقلّ تشدداً في الصراع معهم؟ وتالياً، ما هي آفاق المواجهة مع الإدارة الأميركية المقبلة في هذه الحال؟