Site icon IMLebanon

الفاخوري وجرّة “الحزب”

كتب نجم الهاشم في صحيفة “نداء الوطن”:

كان الجندي في الجيش اللبناني يقف تحت المطر عند أحد المداخل الجانبية لمستشفى وسط مدينة جونيه. استمر هطول المطر وبقي الجندي في مكانه لا مظلة فوق رأسه ولا سقف. عند الجهة الأخرى من الطريق كان جندي آخر يراقب المارة والطريق من دون أي تواصل مع أي كان. وكان الناس يمرون من دون أن يسألوا عن السبب. هناك في إحدى غرف هذا المستشفى الخاضعة أيضاً للحراسة كان يقبع عامر الياس الفاخوري بانتظار إطلاق سراحه.

عندما وصل الفاخوري إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت في 6 أيلول 2019 كان اسمه لا يزال طي النسيان. ولكن فجأة حصل ما لم يكن في الحسبان. عند نقطة تفتيش الأمن العام اللبناني ظهر أنه كان من بين المشتبه بهم بالتعامل مع العدو الإسرائيلي وقد أزيل اسمه من البرقية 303. سمح له عنصر الأمن العام بالعبور واحتفظ بجواز سفره طالباً إليه العودة لاحقاً لاستلامه. عندما عاد بعد خمسة أيام برفقة ضابط من الجيش اللبناني تم اعتقاله ليبدأ مسلسل الإثارة السياسية والأمنية والقضائية.

بين نزار زكّا والفاخوري

يوم الأحد في 9 حزيران 2019 كان مدير عام الأمن العام اللواء عباس ابراهيم يصل إلى طهران عاصمة الجمهورية الإسلامية الإيرانية من أجل اصطحاب اللبناني الأميركي نزار زكا إلى بيروت بعد موافقة السلطات الإيرانية على إطلاق سراحه. زكّا الذي يحمل الجنسيّة الأميركيّة إلى جانب الجنسيّة اللبنانيّة كان وصل إلى طهران في أيلول من العام 2015 بدعوة رسميّة إيرانيّة للمشاركة في مؤتمر حول المرأة والتنمية المستدامة وفي طريق عودته إلى المطار للمغادرة تم اعتقاله وزُجّ به في سجن إيفين وحوكم بتهمة التجسس لمصلحة الولايات المتّحدة الأميركيّة وحكم عليه بالسجن عشر سنوات وبغرامة قدرها 4،2 ملايين دولار.

عندما توجّه ابراهيم إلى طهران كان زكّا قد حصل على عفو خاص وقيل في إيران أنه كان بناء على طلب من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقيل أيضاً أنه كان تلبية لرغبة الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله. بعد يومين في القصر الجمهوري في بعبدا كان المشهد الأخير الذي جمع زكّا إلى رئيس الجمهورية وابراهيم وعدد من المسؤولين وأفراد عائلته قبل أن يعود لاحقاً إلى واشنطن لتنتهي قصة اعتقاله وإطلاقه من دون أن تنتهي التكهنات والإلتباسات. قيل يومها أن “حزب الله” توسّط لإطلاقه وأن الثمن قد يكون إفراج الولايات المتّحدة الأميركيّة عن اللبناني قاسم تاج الدين الذي تتّهمه واشنطن بتمويل “حزب الله” وبمخالفة قانون العقوبات الأميركيّة المفروضة عليه. هذا الأمر تكرّر مع الإفراج عن عامر الفاخوري بعد حكم المحكمة العسكريّة برئاسة العميد حسين عبدالله وبإجماع أعضائها القاضي بوقف التعقبات عنه وإطلاق سراحه يوم الإثنين 16 آذار الحالي.

قاسم تاج الدين والحكم

في مثل هذا التاريخ تقريباً في 12 آذار عام 2017 وصل إلى مطار الدار البيضاء في المغرب رجل الأعمال اللبناني قاسم تاج الدين عائداً إلى لبنان آتياً من كوناكري عاصمة غينيا. هناك ألقت عليه قوى الأمن المغربية القبض وبعد اسبوع كان يتم نقله إلى واشنطن حيث تم وضعه في سجن إقليمي في ولاية فيرجينيا ولم يتمّ السماح لأحد من عائلته أو أصدقائه في لبنان بزيارته على مدى أكثر من عامين. تاج الدين كان موضوعاً مع شقيقيه على لائحة العقوبات الأميركية بتهمة تمويل “حزب الله” وحاول أكثر من مرة أن يلتمس إزالة اسمه ولكن من دون جدوى.

في 9 آب 2019 أعلنت وزارة العدل الأميركية أنه تم الحكم على تاج الدين الممول المهم لـ”حزب الله” بالسجن خمسة أعوام وبغرامة مالية قيمتها 50 مليون دولار. وقد قيل أن الحكم كان نتيجة تسوية تم التوصل إليها معه على أساس عدم اتّهامه بالإرهاب مقابل تعاونه مع المحكمة وتقديم معلومات عن عمله لمصلحة “حزب الله” وإقراره بالذنب والإلتفاف على العقوبات التي تمنعه من التعامل مع شركات أميركية لمصلحة “حزب الله”. وقد علّق مساعد المدعي العام الأميركي بريان بنزكوفسكي على هذا الحكم معتبراً أنه “من أحدث الأمثلة عن جهود وزارة العدل المتواصلة من أجل تعطيل وتفكيك “حزب الله” والشبكات الداعمة له”.

إذا احتسبت مدة الخمسة أعوام يقتضي أن يخرج تاج الدين من السجن في آذار من العام 2022. والحكم على تاج الدين الذي صدر بعد شهرين من إطلاق نزار زكّا وقبل شهر من توقيف عامر الفاخوري ربط بين القضيتين على أساس أن الحكم المخفّف على تاج الدين كان من ضمن صفقة الإفراج عن زكّا والإفراج عنه قبل انتهاء مدة محكوميّته سيكون بدل إطلاق سراح الفاخوري. ولكن هل هذا ما يحصل حقيقة؟

بعد إطلاق سراحه حاول زكّا أن يربط بين حزب الله وبين قضية اعتقاله وإطلاقه. ولكن من دون أن يقدم دليلاً حسيّاً على الأقل في مقابلاته الصحافية حول هذا الموضوع. الأمر نفسه حصل مع قضية توقيف الفاخوري. هل كان لـ”حزب الله” علاقة بتوقيفه؟

علاقة حزب الله؟

لقد اهتمت واشنطن باعتقال زكّا ولكن اهتمامها بتوقيف الفاخوري كان أكبر بكثير. الأمر الذي يمكن التوقّف عنده هو أنه إذا كان الفاخوري بحكم المريض الموشك على الموت فلماذا هذا الإهتمام الأميركي به إلى حدّ جعله على رأس قائمة المطالب التي حملها الموفدون الأميركيون إلى لبنان منذ ما بعد توقيفه وإلى الحدّ الذي ربط به البعض بين قضيته وبين فوز الرئيس ترامب بولاية رئاسية ثانية لأنّه جعله أيضاً على رأس لائحة اهتماماته. تقول التسريبات أن ترامب عندما شاهد ابنة الفاخوري تبكي في مقابلة تلفزيونية معها وتناشده التدخل لإطلاق سراح والدها تأثّر وتبنّى هذه القضية. ولكن هل تحصل الأمور على هذا النحو في واشنطن؟

منذ وصوله إلى الولايات المتحدة الأميركية لم يعرف ما إذا كان الفاخوري تمتّع بأي درجة من الأهمية التي يمكن أن يمثلها للإدارة الأميركية. صحيح أنّه حاصل على الجنسية الأميركية مثل كثيرين غيره ممن غادروا الشريط الحدودي عبر إسرائيل وانتقلوا إلى أميركا ولكن لم يُعرف بأنه لعب أيّ دور لدى الإدارة الأميركية. فلماذا هذا الإهتمام الأميركي به؟ وهل يمكن أن تجعله واشنطن محل تفاوض على صفقة ما مع “حزب الله” بواسطة السلطات اللبنانية؟ ولماذا لم يتمّ منعه من الإنتقال إلى لبنان تجنباً لاحتمال توقيفه؟ وهل أتى بالتالي من دون علم سلطات بلاده وهل كان عليه أن يطلع هذه السلطات على هذا الأمر لكي يأخذ إذناً بذلك؟ طالما أنّه أتى فهذا يعني أنه لم يكن مقيّداً بأي تدابير تحدّ من حركته وتجبره على طلب الإذن بالسفر إلى لبنان.

هذا الأمر يطرح مسألة الإلتباسات التي رافقت ظروف مجيئه إلى لبنان وظروف اهتمام واشنطن به أكثر من اهتمامها بلبنان. بعد توقيفه جرت محاولة لتحميل المسؤولية لأكثر من جهة خصوصاً لقائد الجيش العماد جوزف عون بعد توزيع صور تجمعه به في واشنطن وبعد تسريب معلومات عن الضابط الذي رافقه إلى المطار والأمن العام لاسترداد جواز سفره. كما تم تسريب صور تجمعه مع أكثر من شخصيّة سياسيّة ومع السفير اللبناني في واشنطن في احتفالات للسفارة. وتم وضع ذلك الإستثمار في خانة الحرب المستعرة على رئاسة الجمهورية واعتبار الوزير جبران باسيل أن قائد الجيش يمكن أن يصاب بشظايا هذه القضيّة التي لم يكن باسيل نفسه بمنأى عنها أيضاً.

من جهته تولى “حزب الله” متابعة هذه القضية لمعرفة أبعادها الأمنية بحثاً عن الجهة المتورّطة فيها وصولاً إلى إمكانية الإستفادة منها في ملفّاته العالقة مع واشنطن. ولذلك كانت الملفات المفتوحة ضد الفاخوري أمام القضاء. ولكن هل كان من الممكن أن يتولّى الحزب التفاوض لتحصيل مكاسب خاصّة في حال تمت محاكمة الفاخوري والحكم عليه بالإعدام مثلاً أو بالسجن المؤبد؟الإخراج والخروج

عندما تم نقل الفاخوري إلى ذلك المستشفى ليمكث فيه كان بات من الممكن القول أن مسألة توقيفه لن تكون إلّا مسألة وقت. يوم الإثنين 16 آذار الحالي كان يوم الإخراج بعد إنجاز التفاصيل القانونيّة والتدابير الآيلة إلى خروجه من المستشفى وإخراجه من لبنان. المعلومات التي سُرِّبت بعد قرار المحكمة العسكرية الإفراج عنه بيّنت ان رئيس المحكمة العميد حسين عبدالله تواصل مع “حزب الله” ووضعه في جوّ الحكم الذي سيصدر وقالت المعلومات أيضاً إنه أبلغ الحزب أن أكثرية أعضاء المحكمة موافقون لأن لا موادّ قانونية تبرّر الإستمرار في توقيفه وأنه سمع من “حزب الله” رأياً جازماً بعدم الإقدام على هذه الخطوة. ولكن اللافت أن الحكم جاء بالإجماع وبموافقة العبدالله نفسه. فهل انكسرت جرة “حزب الله” إلى هذا الحد الذي بات لا يستطيع أن يؤثّر في أحكام المحكمة العسكرية لا مباشرة ولا من خلال رئاسة الجمهورية والتيار الوطني الحر؟

لا شك في أن غموضاً سيبقى يلفّ هذه القضية من أولّها إلى آخرها ولكن الثابت فيها أنّ بين واشنطن و”حزب الله” أكثر من ملفّ واحد وأنّ قضيّة قاسم تاج الدين ليست إلا عنواناً واحداً في سجل طويل مفتوح. وأنّ المبادرة يمكن أن تكون انتقلت إلى واشنطن التي تضع الحزب منذ أعوام تحت طائلة عقوبات قاسية وملاحقات قاسية تضطلع فيها معظم الدول التي كان يعتقد الحزب أنه يمكن أن تكون له فيها ملاذات آمنة. انتهت قضية توقيف الفاخوري وعاد ذلك الجندي ورفاقه إلى مراكزهم بينما بقيت السلطة تحت المطر من دون مظلة واقية ومن دون سقف. والغرفة التي قبع فيها الفاخوري أشهراً يمكن أن تصبح مجهزة لاستقبال المصابين بفيروس الكورونا.