كتب شارل جبور في صحيفة “الجمهورية”:
مع رئاسة حسان دياب للحكومة، سقطت معادلة رئيس جمهورية من 8 آذار مقابل رئيس حكومة من 14 آذار، وذلك تجنباً لأن تكون السلطة التنفيذية بيد فريق واحد.
وضع «حزب الله» كل تركيزه في السنوات الأولى لخروج الجيش السوري من لبنان على إسقاط حكومات التعايش بين 8 و14 آذار من أجل الإمساك بالسلطة التنفيذية على غرار ما كان عليه الوضع قبل العام 2005، وهذا ما دفعه إلى إسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، ولكنه عاد وتراجع لاحقاً عن هذه المحاولة تجنّباً للفتنة للسنية-الشيعية، وقد وجد نفسه في وضع مريح مع حكومة الرئيس تمام سلام التي تحظى بغطاء الحريري ونجحت بتبريد التوتر السني-الشيعي، ولم يكن على عجلة من أمره لانتخاب رئيس للجمهورية، فتمسّك بالعماد ميشال عون كخيار أوحد على رغم معرفته انّ أمام انتخاب عون عقبات كبرى، ولكنه فضّل عدم انتخاب غيره تلافياً للصدام معه، كما انه كان يفضِّل أن يحافظ على عون الحليف بدلاً من عون الرئيس، وهذا ما يفسّر الفراغ الرئاسي الطويل الذي دخلت فيه البلاد قبل انتخاب عون.
ولم يكن الحزب يتوقّع أن تصبح أولوية الحريري انتخاب عون او رئيس «المردة» سليمان فرنجية، وان يبدِّل عون في دوره من متطرِّف إلى معتدل، وان ترشّحه «القوات اللبنانية» رداً على التفرُّد بترشيح فرنجية وضمن اتفاق يُزاوج بين الثوابت والمبادئ، وبين إدارة الدولة من أجل ممارسة مختلفة، ولكن الحزب لم يكتف بترشيح «القوات» لعون الذي كان يتيح لوحده وصول الأخير إلى بعبدا، بل انتظر أن يتفاهم عون مع بري والحريري وجنبلاط، وبعد ان لقي دعماً صريحاً من رئيس «المستقبل» بادَرَ الحزب إلى ترجمة دعمه بانتخاب عون رئيساً للجمهورية.
والغاية مما تقدّم الإضاءة على عدم حماسة «حزب الله» على انتخاب حليفه بسبب خشيته من عدم قدرته على التوفيق بين أولوية علاقته مع عون كغطاء مسيحي والسعي معه إلى أكثرية نيابية، وبين أولوية علاقته مع الحريري من أجل مواصلة تبريد التشنج السني-الشيعي، لكونه يخشى فعليّاً إمّا أن تتطور العلاقة العونية-الحريرية على حسابه، وإمّا ان تصطدم وترتدّ سلباً على هندسته بالتوفيق بين الحاجة للغطاء المسيحي والتبريد السني، ومن هذا المنطلق شكّلت حكومة سلام مع الفراغ الرئاسي المعادلة الفضلى التي تمكّنه من الحفاظ على تحالفه مع عون، ومَد جسور التعاون والتنسيق مع الحريري كحالة سنية ممثلة في الداخل ولها امتداداتها مع الخارج.
وفي كل هذا المشهد، فإنّ الحجة التي كانت تسوّق بأنّ التوازن السني-الشيعي الذي يؤمن الاستقرار ويُبعد الفتنة يستدعي وجود رئيس حكومة من ١٤ آذار في السراي، الأمر الذي يؤدي تلقائياً إلى استبعاد رئيس جمهورية من ١٤ آذار بذريعة انّ السلطة التنفيذية تصبح ممسوكة كليّاً من قبل هذا الفريق، فإنّ هذه الحجة سقطت وانتفت، علماً انّ القرار او التوازن الفعلي بعد الطائف هو في مجلس الوزراء مجتمعاً، والرئاسات الثلاث هي انعكاس لتوازنات ميثاقية تمثيلية، فيما استخدام القوة لحلّ النزاعات في لبنان غير ممكن ولا يؤدي إلى أي نتيجة، فضلاً عن انّ اللجوء إلى المواجهات لا يخدم أصحابه والتجربة مع العهد الحالي أقوى دليل، حيث انّ المواجهات المفتوحة التي خاضها الوزير جبران باسيل ارتدّت سلباً على العهد قبل غيره.
وقوة الرئيس الذي يستند بقوته التمثيلية إلى الدستور، على غرار الرئيس فؤاد شهاب الذي رفع الكتاب في وجه الجميع، تُحرج مختلف القوى السياسية برفض الرئيس كل منطق المساومات والصفقات والسمسرات وتمسّكه بالدستور والقوانين، بدءاً من تموضع لبنان العربي والدولي ومصالحه الخارجية، وصولاً إلى استبدال المزرعة القائمة بالدولة المنشودة. والفارق هذه المرة أنه لن يستند فقط إلى تمثيله الحزبي والوطني، إنما على جمهور عريض انتفض في ١٧ تشرين الأول سعياً لقيام دولة في لبنان، وبخاصة بعد التثبّت بأنّ الإصلاح يبدأ من فوق، أي من رأس الهرم الذي يضع السقف ويطلق الدينامية ويسهر فعلاً على تطبيق الدستور في كل أبوابه ومندرجاته.
فالإصلاح الذي تحوّل إلى شعار فارغ من المضمون غير ممكن التحقق إلّا عن طريق تغيير شامل في كل منظومة 13 تشرين 1990، أي عن طريق الضربة القاضية، أو من خلال وصول رئيس للجمهورية لا يريد شيئاً لنفسه، ويتّخِذ من الناس سنداً له من أجل قيام دولة المؤسسات، ويطلق دينامية إصلاحية لا يمكن لأحد الوقوف في وجهها، وخلاف ذلك لن يتجاوز حدود الترقيع.
وليس سراً ولا انتقاصاً ولا هجوماً على العهد الحالي، إنما الوقائع تؤكد بأنّ هذه التجربة فشلت، فلم تنجح بمنع الانهيار المالي، ولم تنجح بتحقيق خطوات إصلاحية، ولم تنجح بترسيخ التوازنات الميثاقية أو بالأحرى ترييح الجماعات، ولم تنجح بأن تكون ضامنة للأفراد ومستقبلهم في هذا الوطن ضمن إطار الشراكة والمساواة في الحقوق والواجبات، ولم تنجح بتوطيد علاقات لبنان الخارجية، وهذا الفشل يرتدّ على فريق ٨ آذار الذي برهنت التجربة بأنه لا يستطيع بناء دولة ولا نقل لبنان إلى شاطئ الأمان، وانه لا يعكس تطلعات اللبنانيين المنتفضين من أجل التغيير، وبالتالي مُنح الفرصة وفشل.
وبما انّ اختيار سنّي من خارج نادي ١٤ آذار ولم يَحظ بغطاء الرئيس الحريري شخصياً ولا بيئته لم يؤدّ إلى فتنة ولا إلى تشنُّج، وبما انّ هذا الخيار قد حصل، فيعني سقوط معادلة 8 في بعبدا و14 في السراي، ويعني بأنّ المطلوب هذه المرة انتخاب رئيس للجمهورية يحمل مبادئ ١٤ آذار وثوابتها وفي طليعتها ترجمة شعار «العبور إلى الدولة» الذي بات مطلباً لبنانياً عابراً للانقسامات السياسية والترسيمات الحزبية، وانتخاب رئيس يحمل هذه المسلّمات لن يكون تحدّياً للقوى الأخرى على غرار تكليف الرئيس دياب الذي لم يكن عن طريق التحدي أيضاً.
ولكن معادلة رئيس حكومة من ١٤ آذار في السراي يقابلها رئيس للجمهورية من ٨ آذار في بعبدا قد سقطت، أقلّه من زاويتين عمليتين: وصول رئيس حكومة ليس من ١٤ آذار ولا يحظى بغطاء الحريري المُسبق ولا يعكس توازنات بيئته، وفشل تجربة رئيس للجمهورية من ٨ آذار. وبالتالي، حان الوقت لتغيير المعادلة بإيصال رئيس للجمهورية من ١٤ آذار ليس على قاعدة غالب ومغلوب طبعاً، لأنّ هذه القاعدة تدميرية للبنان ولا تستقيم أساساً، إنما على قاعدة التسويات التاريخية الوطنية والميثاقية إفساحاً في المجال لمشروع سياسي يعيد الاعتبار لمفهوم الدولة ودورها ويحقق التوازن بين جميع اللبنانيين، وبخاصة ان لا قيامة للبنان من دون دولة.