IMLebanon

هل تقضي الدكتاتورية على وباء “كورونا”؟

كتب حكيم مرزوقي في “العرب اللندنية”:

الخوف يجعل الإنسان أكثر جنوحا للسلم، وأقل صداما مع خصومه، لكنه يصنع نوعا من الشراسة تفرضها “سيكولوجية الإنسان المقهور” كما يراها المفكر مصطفى حجازي، في كتابه الشهير.

لا يحتج إلا الغاضبون، الواثقون من غدهم.. والثقة باستجابة الطرف المقابل لمطالبهم، ذلك أن الحق في الوقفات الاحتجاجية أمر لا تقره إلا النظم الديمقراطية، شرط أن يكون ذلك في حالتي السلم والوئام الأهلي. أما في الحروب والاضطرابات والأزمات، فلا يمكن وضع الاحتجاجات والمحتجين إلا في خانة “بث البلبلة” وتصنيف أصحابها بأنهم من “الطابور الخامس”، ولكن.. مهلا.. أليس من حق المظلوم أن يطالب بحقه ـ وبصرف النظر عن الظروف الطارئة ـ أم أن الديمقراطية “حالة رفاهية” يسمح بها اليسر ويمنعها العسر؟

ووفق نفسية الإنسان المقهور دائما، فإن الأخير، أميل في الأزمات، إلى الإلقاء بحمله على السلطة ـ سياسية كانت أم دينية ـ وذلك للتجرد من المسؤولية، والتماس الأمل.. أيّ أمل.

“كذا الدابة كلما ثقل عليها الحمل رفعت رأسها إلى السماء”، تقارب هذه المقولة للكاتب والمفكر الوجودي التونسي محمود المسعدي (1911 ـ  2004)، فكرة العجز البشري الذي يدفع صاحبه باتجاه الاحتماء بالسلطة السياسية أو نحو التدين كسبيل للخلاص، وليس خيارا معرفيا عاقلا ومتعقلا كما في الفقه الديني المبني على الحجة والاستدلال، أو استلهاما يبني إيمانه على الحدس ووحدة الوجود كما هو الحال لدى المتصوفة.

طيلة هذه الأيام التي ارتفعت فيها وتيرة التوقي والاحتياط من كورونا، ورافقتها خطابات وكلمات وجّهت للشعب في تونس، لم نلحظ وجود أي احتجاج أو تحفظ.. ما عدا بعض التعليقات الساخرة التي لا بد منها في المقاهي ووسائل الاتصال الاجتماعي.

لم ينهض حتى عتاة المتشددين اعتراضا على منع التجمعات المتعلقة بالصلوات في المساجد، أو حتى العمرة والحج. اكتفى الجميع بالصمت والدعاء ومساندة ” أولياء الأمر” منهم.

الخوف يوحّد قلوب المؤمنين وغير المؤمنين، يرصّ صفوف الموالاة والمعارضة، على حد سواء، فمن الذي له مصلحة بالاحتجاج إذن؟

هل الداعون لمواصلة نشاطاتهم الدينية والسياسية والمدنية والاجتماعية والثقافية، هم جماعة على ثقة دائمة بأنهم “لن يبدلوا تبديلا” أم أن في الأمر مكرا واضحا واصطيادا في المياه العكرة؟ كيف لواحد أن يفكر في شق عصا الطاعة أثناء مرحلة ينبغي فيها الوقوف وقفة رجل واحد إزاء عدوّ خفيّ لا يفرّق بين مؤمن وغير مؤمن، مؤيد ومعارض بل يتسرب إلى صفوف الممارسين لحقهم الديمقراطي في الوقفات الاحتجاجية.

هل تستطيع وحدات التدخل السريع وقوى الأمن حماية المتظاهرين والمحتجين من كورونا؟ هل يصلح طلب الرأفة والدعاء بالأمان من أن يحفظ المصلين من فايروس يتسرب ويتنقل بين صفوف المصلين؟

غياب الشعور بالأمان يدفع الفرد باتجاه التدين كآلية بحث عن غطاء يقيه عدائية الآخر وتهديداته، ولكن من هو هذا “الآخر”، أليس هو الخائف والمخيف، القاتل والضحية في الوقت ذاته؟ في المجتمعات ذات الثقافة العنفيّة تكثر حالات التدين كما هو الشأن في الأحياء الفقيرة بدول أميركا اللاتينية التي تُرتكب فيها جرائم القتل والخطف والاغتصاب تحت حيطان الكنائس، وعلى أنغام الترانيم وأجراس الصلوات ثم نلمح المجرمين أنفسهم وهم يجلسون على كراسي الاعتراف، يبدون التوبة ويطلبون الغفران في كل مرة.

كذلك الأمر في الحقل السياسي، وكل ما يتبعه من ممارسات ديمقراطية في المجتمع المدني، لكنّ المصطادين في المياه العكرة كثر، وهم موجودون في المعارضة كما السلطة.. السلطة التي تقول لك هذه الأيام “ليس وقته” ومن حق المعارض أن يرد عليها بقوله “ومتى وقته إذن؟”.

هذه الأيام، يسكت فيها الناشطون السياسيون والدينيون على حد سواء. وقاموس المقهورين والمستضعفين يعج دوما بعبارات الحوقلة والحسبلة (الأولى من “لا حول ولا قوة إلا بالله” والثانية من “حسبي الله ونعم الوكيل”)، ذلك أن هذا الشعور بالمظلومية لا يجد له عزاء وبلسما إلا في الركون للتعبد كوسيلة استقواء على كل أشكال الظلم والاستبداد.

تعزز حالة التدين لدى الموتورين وفاقدي التوازن النفسي شعورا بالقوة ورغبة في الانتقام من أصحاب السلطة والنفوذ المادي والمعنوي فتبعث لدى صاحبها حالة من “العدائية المشروعة” مصدرها أن صاحبها على حق، وإنما كلفته الإرادة الإلهية بمهمة الثأر لمن هم على شاكلته من المظلومين والمقهورين، لكن الأوبئة تجعل من كل محتج “يعدّ للعشرة” ثم “ينكث بوعده” مع واجبه المدني والسياسي أيضا.