كتبت سوسن الشاعر في صحيفة “الشرق الأوسط”:
عابوا على الأنظمة الملكية في الخليج وقالوا إن الدولة الريعية نظام قبلي رجعي، وانتقدوا النظام الأبوي وروّجوا لحكم المؤسسات.
فإذا بتلك الأبوية الإنسانية في الأنظمة الخليجية تغطي بظلها كافة المسؤولين منها والذين تحت مظلة حكمها، وتشمل من هم داخل دولهم وخارجها، في حين تركت الأنظمة (الراقية) (المتقدمة) مواطنيها خارج دولهم بلا رعاية وتخلت عن مسؤوليتها تجاههم.
لقد عبر العديد من الأجانب الأوروبيين والأميركيين المقيمين في الدول الخليجية هذه الأيام عن إعجابهم بطرق احتواء الوباء وفي مستوى الخدمات المقدمة وعدم تمييزها وسرعة وصولها لمن يحتاجها وقارنوها بما تقدمه دولهم فوجدوا الأمان والاطمئنان هنا، فليس التقدم العلمي هو المعيار إنما نظامك الصحي مقروناً بإنسانيتك هو المعيار.
دروس حقوق الإنسان وتقارير التقريع والتوبيخ الأوروبية التي لم تتوقف تعلمنا الرحمة والعطف واللين مع الناس كلها تبخرت حين جاء الوباء فجأة وإذ بمعايير حقوق الإنسان عند الدول التي صدّعت رؤوسنا بالمساواة وعدم التمييز والعنصرية والطائفية تتبدل، حين وصلهم الوباء، فإذا بالعالم المادي يبرز في «أوضح» صوره حين صنفت النظم الرأسمالية الناس وقسمتهم، وقررت تلك الأنظمة لمن ستقدم الدولة خدماتها أولاً ومن هم في آخر السلم.
ألم يروجوا لأنظمة التأمين الصحي التي كانت تتويجاً لما تفتقت عنه عقولهم ودليلاً إرشادياً لحكم المؤسسات، والذي وضع «العلاج» قبل «الرعاية» على سلم أولوياته، فللعلاج مردود مادي أما الرعاية فكلفتها عالية «وتشمل الخدمات الوقائية صحة الأم والطفل، مثل خدمات ما قبل الولادة، وفحص الأطفال الدوري والتحصين وخدمات ما بعد الولادة أو الإجهاض، وخدمات تنظيم الأسرة، وخدمات فحص النساء الدوري، وخدمات ما قبل الزواج، والفحص بالموجات فوق الصوتية للسيدات الحوامل. وتشمل الخدمات الوقائية أيضاً خدمات صحة الفم والأسنان مثل برنامج طلاء الأسنان، وتطبيق الفلورايد، والأنشطة التعليمية، وخدمات طب الأسنان للأم والطفل، ومرضى السكري، وكبار السن والعملاء من ذوي الاحتياجات الخاصة» (موقع وزارة الصحة – مملكة البحرين)… تلك خدمات ليس لها مردود مادي محسوس كالذي تقدمه المستشفيات، حتى إذا ما جاء الوباء وإذ به يطيح ذلك السلم ويعيد الاعتبار لأهمية الاستثمار في الرعاية الصحية الأولية رغم أن الاستثمار فيها غير ربحي ومردوده هو مجتمع قوي المناعة وقادر على مواجهة الأوبئة ونظام قادر على إيصال الخدمات بتوزيعه للمراكز الصحية وفقاً للكثافة السكانية وقربه من الناس، وهذا الذي سهل وصول خدمات الفحص والرعاية المنزلية لمن هم في المحاجر المخصصة وحتى لمن هم في الحجر المنزلي لأنه نظام معتمد منذ سنوات.
وها هي نظرة جديدة إلى الأنظمة التي حكمت الناس بوهم الشعارات الدينية وغررت بشعوب وبطوائف، وصورت لهم العيش تحت مظلتها على أنه الحلم والمنتهى وغاية المطلوب، وحرضت جماعات خليجية على حكوماتها وغررت بهم وساعدتهم على مخالفة أنظمتها وجعلتهم ينظرون لأنظمتهم على أنها قمعية رجعية لا تولي للإنسان فيها أي أهمية أو تعطيه حقوقه وأصغت لخطاب الأنظمة الدينية الحزبية ورأت في شواطئها الاخضرار اللامتناهي، حتى إذا ما جاء الوباء فكشف المستور وظهرت حقيقة تلك الأنظمة التي وضعت صحة الإنسان على آخر سلم أولوياتها، فظهرت البنية الصحية في أوهن صورها، ودفع الناس ثمن الجهل وانتشار الوهم والخرافات غالياً من صحتهم، ذلك الوهم الذي عززته تلك الأنظمة وكرسته إمعاناً في تغييب تلك الشعوب وتسيرهم كالقطعان، حتى إذا ما احتاجت للمنطق والعقل والوعي للحفاظ على صحة الناس ومكافحتهم للأوبئة لم تجده ولم تعثر عليه، بل أثبتت مشاهد اقتحام الأماكن الدينية من قبل الرافضين لقرارات الغلق صعوبة تغليب خطاب المنطق على من نشأ وتعود على خطاب العاطفة والتجييش.
المفارقة حين انتشر الوباء وجدت تلك الجماعات الخير والأمان والرعاية والعناية عند أنظمتها لا عند من ظنت به خيراً، فبذلت ما تستطيع تناشدها من أجل إعادتها إلى ديارها لتحظى بالرعاية التي تحتاجها وقت الضيق.
بل لم تقف الرعاية عند التبعات الصحية للوباء عند الأنظمة التي عابوا عليها أنها ريعية بل امتدت لمعالجة الآثار الاقتصادية فخرجت تلك الأنظمة بحزمة إجراءات وبوضع صندوق للسيولة تكفل باحتياجات المواطنين مادياً، فأوقفت البنوك سحب قروضها ودفعت عنهم فواتير الكهرباء وغيرها من الإجراءات التي تبقي على المواطن الخليجي معززاً مكرماً في وطنه.
لنقر ونعترف بأن معايير الحكم الرشيد تبدلت في زمن «كورونا»، ففي هذا الزمن تمتحن إنسانية النظام وأخلاقه… إنه زمن «كورونا» الذي يكرم فيه النظام أو يهان.