ربّ ضارّة نافعة. هذا ما يمكن الخروج به مالياً ونقدياً واقتصادياً من تأثيرات وباء كورونا عالميا على لبنان تحديداً. فالتأثيرات السلبية للكورونا على الاقتصاد المتهالك والمالية المنهارة للدولة يوازيها انشغال العالم بالأزمة الكارثية صحياً ومالياً واقتصادياً، ما يجعل دائني لبنان يظهرون كل الليونة المطلوبة والتفهم لأوضاعه.
ولكن ثمة ما لم ينتبّه له اللبنانيون على الإطلاق. في الولايات المتحدة باشرت المصارف الأميركية، وفي طليعتها “بنك أوف أميركا” بإجراءات الكابيتال كونترول بعد أسبوعين فقط على بدء أزمة الكورونا في الولايات المتحدة، وحددت السحوبات بالدولار الأميركي بألف دولار شهريا عبر الصراف الآلي أو 4 آلاف دولار عبر الصناديق داخل المصارف. نعم أسبوعان فقط كانا كافيان لتستشعر المصارف الأميركية الخطر وتباشر الإجراءات الاحتياطية!
ماذا يعني هذا الكلام؟ إنه يعني ببساطة أن على اللبنانيين، وقسماً كبيرا منهم بات من المنظرين الاقتصاديين والماليين، أن يدركوا ما هي وظيفة السلطات النقدية والمصارف المركزية في الدول خلال الأزمات الكبرى.
فلنتأمل ماذا يجري اليوم في كل دول العالم حيث المصارف المركزية تتدخل لضخّ السيولة في المرحلة الحالية الخطرة في محاولة لشراء الوقت وعدم السماح بالانهيار الشامل، في انتظار العودة الاقتصاد الطبيعي الى العمل والنهوض ليعود الانتظام المالي إلى الدول المعنية. هكذا تم ضخ آلاف المليارات من الدولارات في الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا والدول الخليجية وصولا الى الصين ودول الشرق الأقصى وأستراليا. هذه هي وظيفة المصارف المركزية والسلطات النقدية في العالم خلال الأزمات.
فلنعد إلى لبنان. ينسى اللبنانيون كيف أنه حين غرق العالم في الأزمة المالية والاقتصادية العالمية في العام 2008، لم يشعروا في لبنان بأي شيء من تداعيات هذه الأزمة بفعل السياسات والقرارات الحكيمة لحاكم مصرف لبنان التي جنبت البلد خضة كانت لتكون كارثية لو حصلت يومها في ظل الظروف السياسية والأمنية بعد حوادث 7 أيار والانتخابات الرئاسية وعشية الانتخابات النيابية في صيف 2009.
وينسى اللبنانيون أنه منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري ولبنان يعيش كوارث تلو الأخرى، من مسلسل الاغتيالات مرورا بحرب تموز و7 أيار، وليس انتهاء بالحرب في سوريا التي انخرط فيها “حزب الله” كما انخرط في حرب اليمن، فجنينا مقاطعة عربية وإعداماً للسياحة والاستثمارات. في كل هذه الأعوام راحت الحكومات في غيبوبة شاملة، فلا خطط ومشاريع اقتصادية ولا موازنات، بل إمعان في الفساد والصفقات والتوظيفات الزبائنية وعدم حلّ أزمة الكهرباء وإغراق البلد ماليا واقتصاديا. وبقي مصرف لبنان يحاول القيام بدوره، كما تفعل كل المصارف المركزية والسلطات النقدية في العالم، عبر محاولة شراء الوقت عبر ضخ السيولة لمنع الانهيار المبكر، علّ السلطة السياسية والحكومات المتعاقبة تتحمل مسؤولياتها، ولكن عبثاً.
هكذا وبعد حوالى 15 عاماً من محاولة مصرف لبنان، ومن خلفه المصارف، تأخير الانهيار وشراء الوقت في انتظار أن يتحمّل المسؤولون مسؤولياتهم، ثمة من يأتي اليوم ليحمّل مسؤولية الانهيار إلى مصرف لبنان وسياساته وإلى المصارف اللبنانية، لا بل وتتنطح السلطة السياسية لمحاولة تحويل مصرف لبنان وحاكمه والمصارف كبش محرقة لإصرارها على تغييب الرؤية والسياسات الاقتصادية السليمة وإصرارها على الإمعان في الفساد!
بالفعل إنها وقاحة ما بعدها وقاحة…