كتبت هيام القصيفي في صحيفة “الأخبار”:
لا تتعامل أي دولة تواجه انتشار فيروس كورونا، مع المرضى وفقاً لمعيار مذهبي أو طائفي أو عرقي، ولا تنفذ عزلاً منزلياً أو تأمر باستقبال المرضى تبعاً للانتماءات الحزبية والسياسية. منذ اللحظة الأولى لتسجيل «الفيروس» في لبنان، تم التعامل معه مذهبياً. ومع توسع انتشاره، جرى التعامل معه في داخل البيئات المصابة، مناطقياً وحزبياً. وبعد أكثر من شهر على دخول لبنان نادي الدول الموبوءة، ومع تمديد التعبئة العامة، ازدادت الحالات النافرة في أسلوب التعامل السياسي مع الوضع المستجد وارتباطه بارتفاع نسبة حالات الفقر.
كان من الطبيعي أن تواجه خطة حزب الله الصحية ــــ استباقاً لتفتشي الوباء ــــ بانتقادات سياسية. لأن التعبئة التي حرص على الإعلان عنها بتفاصيلها اللوجستية والمادية، تعني أن الحزب، ولو تحت عنوان مواكبة إجراءات الدولة، يكرس مقولة أنه «دولة ضمن دولة»، بعدما كان في عين الاتهامات بسبب عدم وقف حركة الطيران من إيران كمصدر لتفشي الفيروس. يمكن الاستدلال من تفاصيل الخطة التي كان يتصرف بوحيها من دون إعلان، أن الحزب الذي يواجه عقوبات خارجية ويتم التضييق عليه في المصارف، ويعاني عزلة دولية تتعلق بالمساعدات التي يحتاج إليها، أراد إثبات بقائه على جاهزيته وتنظيمه الداخلي في ما يتعلق بأول استحقاق على هذا المستوى التنظيمي الداخلي يواجهه بعد حرب تموز ــــ آب 2006. وقد عكست هذه التدابير اطمئناناً لدى جمهوره، مطوقاً الاتهامات التي طاولته بإخفاء الإصابات في بعض مستشفياته وفي مناطق نائية، وخصوصاً بعد ما نُقل عن وزير الصحة حمد حسن طلبه عزل منطقتي كسروان وجبيل لتفشي الإصابات فيهما.
إذا كان الكلام يتعلق حصراً بموقع حزب الله في تعامله مع الكارثة الصحية، فإن الحزب حكماً نال حصته من الثناء عليه في قاعدته. لكن هذه الخطة، تعني أيضاً أن الهامش يضيق بين الدولة بمفهومها الواسع، ومفهوم الحزب ــــ الطائفة التي تقوم مقام الدولة بإيجاد إيقاعها الخاص في مثل هذه اللحظات المصيرية، علماً بأن «الدولة» أمام تحدّ قاسٍ، بسبب سوء إدارة الحكومة في معالجة ما أفرزته ممارسات مصرف لبنان وجمعية المصارف، وكذلك سوء إدارة العهد أيضاً لحالة التطويق العربية والدولية له، التي لم تُكسر إلا في حالة إطلاق عامر الفاخوري، وعدم وجود رؤية واضحة وخطة متكاملة لدى العهد والحكومة لمواكبة التدهور الصحي والإنساني والمالي. وفي مفهوم الدولة إذاً، هناك حزب يتقدم على الدولة وعلى غيره. لكن ما قام به حزب الله، يمثل في مكان ما، نقطة سوداء في خانة الأحزاب والقوى السياسية ــــ الطائفية، التي تسعى الى الاختباء خلف كلمة دولة، كي تغطي فضائح القطاع الخاص المصرفي والصحي، وتبرر العجز عن تقديم أي مبادرة اقتصادية ومالية أو صحية. وإذا كان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط يقدم نموذجاً مشابهاً لنموذج حزب الله في التعاطي مع أزمة كورونا، ولو بمقدرات أقل، ومع الانضباط «الحزبي» نفسه، فإن ضحالة ما تقدمه المرجعيات السياسية المسيحية والسنية، عدا حملات الرش والتعقيم البدائية ببذلات ملونة، يبدو فاقعاً الى حد الاستهتار.
في مقابل الاطمئنان «الشيعي»، وعجز الدولة، وفي ظل «فيدرالية» ظهرت الى العلن، لم تحتج معظم القوى السياسية المسيحية والسنية تحديداً الى أكثر من شهر لتظهر مدى ترهلها، وفقدانها البنية التحتية اللازمة للتعامل مع هذه الأزمات، تاركة قواعدها تحت رحمة بدائيات غير مؤهلة، إلا للصفقات بالجملة والمفرق، وفي استثمار المرض لبازار سياسي مفضوح. أليس غريباً في كل ذلك أن يقول الناس في عز أزمة صحية تحتاج الى أطباء ومستشفيات إن الجيش هو الحل، بعدما دخل هو الآخر في لعبة المحسوبيات والإعلانات الدعائية لاستثمار سياسي ورئاسي؟ من المفيد طرح الأسئلة عن الماكينات الحزبية لتيار المستقبل، وعن هذا التخلي التام من مرجعياته في لبنان والخارج، لمواكبة تفشي المرض والبطالة والأزمة المعيشية الخانقة التي تظهرها مشاهد الناس في طرابلس والبقاع وبيروت والجنوب. أين الماكينات الحزبية ــــ الانتخابية، والاستنفار لتأمين أبسط حقوق الناس في المعالجة؟ اسم مستشفى رفيق الحريري لا يكفي وحده لتغطية غياب المرجعية التي تؤمن اطمئنان الناس في الأزمات.
وفي ظل انحسار دور الكنيسة التام، لا يزال السؤال عمّا حققته الاجتماعات المسيحية الحزبية في جبيل وكسروان والمتن، في حين أن بلديات تابعة لهذا الطرف أو ذاك، تمنع تخصيص أماكن معينة، ولو دينية ــــ رهبانية، لحاجات العزل الصحي، أو تقوم بلديات «مسيحية» بعزل نفسها عن المناطق الأخرى، لمنع تفشي الفيروس، وترفض إقامة مبان خاصة للعزل. ويمكن السؤال أيضاً عما حققته هذه الأحزاب، فيما لم تستطع بعد شهر ونيّف تأمين مستشفى مؤهل لمواكبة المرضى، رغم وجود مستشفيات متوقفة عن العمل أو متعثرة يمكن استخدامها. حتى الآن، كل ما حققته القوى السياسية في قواعدها السنية والمسيحية، مجرد حملات إعلامية وتغريدات لا تلائم الواقع الذي يحتاج الى مستلزمات طبية وتأمين أموال الى طلاب محتجزين في الخارج. حقيقة الأمر أن هناك مرضى قد لا يجدون مستشفى يستقبلهم لمعالجتهم، لأن المحسوبيات السياسية حجزت لنفسها مكاناً ومعدّات على حسابهم. لم يعد التلطّي خلف الدولة مبرراً، بعدما أمعنت هذه القوى في استثمار موارد الدولة لغايات حزبية، وحين حان وقت استخدام هذه الموارد في أزمة مصيرية، لا يجد الناس الى جانبهم سوى عدد محدود من شخصيات سياسية مسؤولة تدافع عن حقهم في الاستشفاء وتؤمن لهم بعض ما يحتاجون إليه.