IMLebanon

الواحد والعشرون و«الكورونياليّة»

كتب جورج طوق في صحيفة “الجمهورية”:

يُحكى أنّ انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون في الكوكب الأزرق اليوم هي الأدنى منذ اقتحام الأخير للقرن الواحد والعشرين. ليس ذلك بفضل وَعي متصاعدٍ عند المدركين من قاطنيه، فهم واعون لسُمِّية انبعاثاتهم منذ العام ١٩٨٥، لكنّ الهوس بكسب السباق نحو المقدّمة أعتى من الوعي. إنّها سطوة الهلع لكائنٍ متناهي الصِغر على بقعةٍ مترامية الأطراف. فعل الصغير، في بضعة أيّام، بالحرب على الاحترار العالمي، ما منعَ متصدِّرو السباق فعله على مدى خمسة وثلاثين عاماً. قد تشكّل هذه الإيجابية العرضيّة تحوّلاً مفصلياً بمفاهيم التغيير المناخي، إذ بَدا جليّاً، مع الإقفال القسري، الضرر البيئي لليد البشريّة وقدرتها على رفعه، بمجرّد مقارنة صورتين، بفارق أسبوع واحد، لأفق أيّ مدينةٍ مزدحمة أو صناعيّة.

علّق الوباء أيضاً، بلا سأم البيروقراطيّة، كلّ سباقات التفوّق والتسلّح وحوّلها نحو العلاج واللقاح. سباقٌ تترقّبه البشرية جمعاء، أكثر ممّا ترقّبت السباق إلى الفضاء في القرن الماضي. إنّه أوّل سباقٍ، بين الأمم، تُنشر بياناته على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا تُدفن بين سريّة الوثائق السوداء. يسجّل هذا السباق سابقة أخرى فائقة الأهميّة، إذ لن يهزم الرابح فيه الخاسرين، ولن يفتك بالمتفرّجين بخلاف كلّ سوابق التاريخ. تبدّلٌ هائل، كان ليأخذ عقوداً عدّة في ظلّ تبدّلات التاريخ الطبيعيّة لولا نظام الهلع العالمي الجديد.

 

في الحرب الكورونيّة الكونيّة هذه، سوابق عديدة، إذ تبدو الدول الأكثر تمكُّناً أكثر إرباكاً وعرضةً للخسارة، على غرار أميركا وفرنسا وبريطانيا والصين. تبدو ترساناتها أيضاً فولكلوريّة وصَدِئة. ترتعد هيبة جيوشها أمام خفّة العدو الجديد، وتُثقل أعدادها هواجس تفشّيه. الجيوش، في هذه الحرب، بحاجة للحماية عوضاً عن تقديمها. فاستبدلت، على وجه السرعة، عبواتها الناسفة بعبوات التعقيم وسماكة دروعها الفولاذيّة بأقنعةٍ بِرِقّة محرمة.

إنّها أيضاً المرّة الأولى في التاريخ التي تعلن فيها غالبيّة الأديان استسلامها للعلم، وتقفل دُورَها وتتضرّع لحلول طبّية من نسّاك الأردية البيضاء. غالباً ما منع أهل الدين العلاج عن المصابين خلال نكبات التاريخ المماثلة، واكتفوا بالدعاء لهم، ثمّ بالصلاة على أرواحهم. قد يثمر تسامح العمامة هذا مع العلم، لاحقاً، علاقة أكثر سويّة بينهما.

بَدّلت «الكورونياليّة»، بوتيرة فائقة السرعة، أولويّات العالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. لم تمض أيّام على بروز جديّة الوباء، حتى أعاد الناس لمتطلِّبات العيش منطقيّتها وللرفاهية هامشيّتها، وخرجوا من هذيان الاستهلاك على وقع غريزة البقاء وقدسيّة الصحة والخبز كفاف اليوم.

 

لن يُبطل انحسار الوباء، إن حصل سريعاً، مفاعيل التبدّلات السلوكيّة للناس بالسهولة التي فرضها عليهم فيها، لا سيّما تلك المتعلّقة بالتباعد الاجتماعي ومحدودية الحركة. فالذاكرة الجماعية أبقى من الذاكرة الفردية. أعلنت «الكورونيالية»، من دون استئذان أحد، نهاية السباق المعيشي السائد منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وصعود نزعة الإملاءات المبرمة للرأسمالية والعولمة والصور النمطية المحفّزة للاستهلاك. سباقٌ يومي، لا نهاية له ولا قواعد غير أرقام توحي بالصواب. أرقام تحكم حياتنا بقمعية مقنّعة، تبدأ بثمانية أكواب ماء، ثماني ساعات عمل، ألفي سعرة حراريّة وعشرة آلاف خطوة في اليوم. أرقام ليومٍ واحد لا يتّسع لها اليوم، وأخرى تُفيض الأسبوع وتُتخم الشهر، وتنتهي بإنهاك العام بوجهاتٍ ضرورية للسياحة ومؤشّر وزنٍ يدّعي المثالية لكلّ فرد. سباقٌ بلا هوادةٍ خلف أرقام بلا معنى.

فضحت «الكورونياليّة» هشاشة ترابط الليبرالية والرأسمالية بالاستهلاك. لا تغدق هذه الدول على شعوبها إلّا ما يسهل بيعه لها. فالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، قادرة على إنتاج ملايين الوجبات السريعة كلّ يوم، فقط إن تيَسّرت لها القدرة الشرائية الشعبية، لكنّها عجزت، في غمرة الوباء، عن إطعام جياعها أو تقديم العناية الطبية اللائقة لهم قبل استباب توازن العرض والطلب وهوامش مُرضية للربح.

فضحت «الكورونياليّة» أيضاً عبثية هوس الشيوعية والشمولية بالسلطة والقمع، إذ فضحت تمسّك إيران والصين بدَجل الرواية الرسمية حتّى بلغ شيوع الوباء ما يستحيل احتواؤه، بنسخةٍ طبق الأصل عن خطيئة الاتحاد السوفياتي في شرنوبيل. نجحتا بعدها نسبيّاً بخطة العزل، لارتباطه المباشر بمهارة نظاميهما التاريخيّة بالقمع.

على خطّ آخر، توحي الفئات العمريّة لضحايا الوباء العالمي الجديد، بتناسبٍ طردي لحقده مع مسؤوليّة الأجيال عن العطب الأخلاقي والسياسي والبيئي الذي بلغه الكوكب اليوم. فالوباء يغفل أطفال العالم، يرأف بشبابه ويفتك بشيبه. يحمل سيناريو الهجمة المرتدّة الانتقاميّة للطبيعة كمّاً وافراً من الخرافة، لكنّه قد يحمل أيضاً مفارقةً فائقة الغرابة ومُستحقّة للجنس البشري.

«الكورونياليّة» هي نظام عالمي جديد. قد تبدو، للوهلة الأولى، أقسى من الكولونياليّة والشمولية والرأسمالية، لكنّها، رغم قسوتها، أكثر عدالة.