كتب انطوان الأسمر في صحيفة “اللواء”:
مع تراجع النقاش الحاد في قضية عامر الفاخوري، سيتبيّن تباعا الكثير مما إستوجبه المسار القضائي في المحكمة العسكرية. ويرتبط النقاش هنا ليس بمفهوم العمالة وجرميتها، وهو ما يأخذ البعض الجدال اليه عنوة، بل تحديدا بالثغرات الموجودة في القانون والتي منها نفذ فريق الدفاع عن الفاخوري، الى جانب تلازم قضيته مع الحكم الذي سبق أن أصدرته المحكمة العسكرية في 16 تشرين الثاني 2001 في قضية مقتل الأسيرين إبراهيم أبو عزة وبلال السلمان عمدا، وهي الواقعة ذاتها التي لاحق بها القضاء الفاخوري والتي لم يُلاحق بها في حينه. وقضى الحكم عند ذاك بإسقاط دعوى الحق العام بمرور الزمن العشري.
أساسا، ثمة على مستوى الدولة، أي دولة، مفهوم المصلحة العامة للأمة التي تتقدّم وتتفوّق على أي مصلحة أخرى. هو مبدأ معتمد في كل الدول، وخصوصا في المسائل التي تخصّ الأمن القومي، وتحديدا في قضايا العمالة والتجسس. ويحضر في هذا السياق، أكثر ما يحضر، جوناثان بولارد، الشخصية المحورية في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب. بولارد كان يعمل في مجال تحليل المعلومات في البحرية الأميركية عند القبض عليه بتهمة تسريب بيانات لمصلحة إسرائيل عام 1985، وحُكم عام 1987 بالسجن مدى الحياة، وأطلقته السلطات الأميركية في 20 تشرين الثاني 2015، بعدما أمضى في السجن 30 عاما، ما يقرب من نصف حياته، ويكاد ينهي فترة الخمس سنوات من الإفراج المشروط في الولايات المتحدة بينما يرتدي جهاز رصد إلكتروني على كاحله يتيح للسلطات أن تراقب تحركاته.
كان بولارد نقل لمشغّليه الإسرائيليين حقائب تحتوي على وثائق سرية عن دول عربية والدعم العسكري الذي تلقته من الاتحاد السوفياتي، فيما ذكرت وكالة المخابرات المركزية الأميركية أن بولارد «عرّض معلومات استخبارية مهمة للمخابرات الأميركية ومصالح السياسة الخارجية للخطر».
جوناثان بولارد أطلقته واشنطن بعد سجن 30 سنة لاعتبارات المصلحة العليا للدولة
ليست الغاية من إيراد هذه الواقعة التشبيه أو المقارنة، ولا القفز فوق جريمة العمالة أو عذابات الأسرى ودماء الشهداء، بل لضرورات البحث فحسب للدلالة على أن المصلحة العليا للدولة هي التي قضت على واشنطن القفز على ما سببه بولارد من اختراق خارجي – اسرائيلي هو الأخطر على الاطلاق في الامن القومي الأميركي، لدرجة أن إسرائيل كافأته وهو في السجن بمنحه جنسيتها عام 2008 رغم أنها نفت عنه عام 1998 تجسسه لمصلحتها.
ما حصل في ملف الفاخوري يتعدى مسألة التهديدات الأميركية بإدراج مسؤولين لبنانيين في لوائح العقوبات في حال الاستمرار بسجنه، الى جانب إستعداد الكونغرس لإستصدار قانون zero tolerance الذي تقدّم منه السيناتوران الديمقراطية جاين شاهين والجمهوري تيد كروز. وهو الأمر الذي زجّه البعض في لبنان في سياق الصراع الداخلي. إذ إن التهديد الأكثر مساسا بالمصلحة العليا للدولة جاء على شاكلة إبلاغ الإدارة الأميركية إستعدادها الكامل بلا أي تباطؤ لقطع العلاقات مع لبنان، في مختلف أشكالها وانواعها، وتصنيفه على أنه بلد عدوّ للولايات المتحدة وحاضن للإرهاب، الى جانب إنزال العقوبات به وبمسؤولين فيه وقطع المساعدات المخصصة له في وزارتي الدفاع (تلك المخصصة للجيش اللبناني بشكل أساسي ومن ثم القوى الأمنية الأخرى) والخارجية (عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية USAID).
ما يجب استداركه لبنانيا أن واشنطن قاربت العلاقة الأميركية – اللبنانية الراهنة على أنها الأسوأ في تاريخ البلدين، وهو الامر بالتأكيد لا يمكن للبنان تحمّل تبعاته ليس أميركيا فقط بل وخصوصا أوروبيا. إذ في تلك الحال لن يكون في مستطاع أي دولة – لا فرنسا ولا غيرها – مساعدة لبنان، لا من ضمن مؤتمر سيدر ولا حتى عبر برامج المؤسسات الدولية وخصوصا صندوق النقد. أما أي تقدّم في قضية الفاخوري ستنظر اليه واشنطن على أنها خطوة إيجابية وبارقة لبدء مسار جديد لتصحيح العلاقات، مع مقاربة مغايرة للموقف من الحكومة. وهو ما حصل فعلا، إذ ليس عابرا أن يخصص الرئيس دونالد ترامب فقرة في خطابه لشكر الحكومة اللبنانية، الحكومة نفسها التي كانت تصفها الادارة حتى قبل ساعات من إطلاق الفاخوري، بأنها حكومة حزب الله. كما ليس عابرا أن يحظى فريق الدفاع عن الفاخوري بجملة إجتماعات لبنانية ظلت بعيدة من متناول الإعلام شملت مرجعا حكوميا ووزراء معنيين، تناولت كل تفصيلات القضية، بما فيها موقف حزب الله تحديدا.