Site icon IMLebanon

الكورونا تعزز الاقتصاد الرقمي

كتب لويس حبيقة في صحيفة “اللواء”:

تتطوّر الاقتصادات عبر الزمن تبعا لتقدم العلوم وتغيّر حاجات الانسان. لا يمكن لأي علاقات فكرية اقتصادية أن تدوم عبر الأجيال لأن الانسان يتغير والعلاقات الانسانية تتطور. لا يمكن لانسان اليوم أن يعيش كما عاش الأسلاف والأجداد. يأتي اليوم الاقتصاد الرقمي ليأخذ مكانه في العلوم الاقتصادية المتطورة بعد عقود من البحث والتطوير والتقدم التكنولوجي. امتداد الكورونا جعل الحاجة الى الاقتصاد الرقمي تظهر بقوة وسرعة. فرضت الكورونا على المجتمعات التواصل عن بعد منعا لانتقال الفيروس، ولم يعد ممكنا حتى الالتقاء في ندوات أو حوارات وجها لوجه مما أثر سلبا على نوعية الحياة. كيف يمكن اذا تسيير الأمور العملية من دون الاقتصاد الرقمي الذي سمح للمجتمعات العالمية بالاستمرار في الحياة والعمل في ظروف خطيرة قاهرة. الاقتصاد الرقمي هو دواء لمحاربة الكورونا بانتظار الأدوية الطبية الفاعلة التي تأخرت. يساهم الاقتصاد الرقمي اذا بتخفيض التكلفة الصحية للكورونا كما في تخفيض عدد الضحايا.

يأخذ الاقتصاد الرقمي موقعا متقدما في النظريات والتطبيق بسبب تأثيره على الانتاجية والنمو. في الاقتصاد تنبع من وقت لآخر نظريات عدة لكن قلة منها يدوم أو يعطي النتائج الايجابية المنتظرة. الحرب الاقتصادية الأميركية الصينية ليست فقط تجارية وانما قانونية وتكنولوجية أيضا بحيث تتنازع الدولتان على وضع قواعد مستقبل الاقتصاد الرقمي. هذا يعني عمليا محاولة السيطرة على الاقتصاد العالمي. مجموعة الوحدة الأوروبية ليست بعيدة عن هذا الصراع علما أنها لا تظهر علنا مواقفها كما تفعل القوتين الأخريين. سيطرة احدى القوى على الاقتصاد الرقمي يعطي أفضلية كبرى للشركات الوطنية في الأسواق العالمية. فمن يستطيع خسارة هذا السباق؟

يسمح الاقتصاد الرقمي بإعطاء المعلومات بأقسام أو كتل صغيرة مما يخفف التكلفة، أهمها التخزين والاحتساب ونقل المعطيات. تتأثر الحركة الاقتصادية كثيرا بتطور الاقتصاد الرقمي عبر التأثيرات الايجابية على الانتاجية والتجارة وتطور المدن وتقصير المسافات وكيفية عيش المواطن. يرتكز الاقتصاد الرقمي على تطور خدمة الأنترنت التي بدأت مع السلطات العسكرية للتواصل بين الوحدات، لكنها لم تصبح خدمة تجاربة الا بفضل الخصخصة التي عمّت قطاع الاتصالات عالميا بين سنتي 1990 و1995. لعبت الجامعات دورا كبيرا في نشر الانترنت وجعلها خدمة شعبية ثقافية، بل حالة لا يمكن العيش من دونها. نكتشف اليوم مع الكورونا أهمية الاتصالات والأنترنت تحديدا والتي تخفف من ظلم الحجر المنزلي وضرورة «خليك بالبيت».

تطور دور مقدمي خدمة الأنترنت مع الوقت بحيث يطلب منهم الحيادية، أي معالجة ونقل المعلومات بنفس السرعة والطريقة دون تمييز. يبقى على هذه الشركات أن تميز بين حرية نقل المعلومات واحترام الملكية الفكرية بحيث لا ينقل شيء خاص أو سري من دون اذن المصدر. احترام الخصوصية يدخل في صلب حرية نقل المعلومات التي يجب أن تبقى مهنية وبعيدة عن التشهير والاساءة. ما يجعل الاقتصاد الرقمي جذابا ومفيدا هو تأثيره المباشر على التكلفة أي على النمو والانتاجية. هنالك أقسام تكلفة مختلفة تتأثر بالرقمية منها البحث، النسخ، النقل، التعقب والتحقق. مجموع أقسام هذه التكلفة كبير ومهم على صعيد الاقتصاد العام كما الشركة نعرضها كالتالي:

أولا: تكلفة البحث عن المعلومات مما يوحد الأسعار لنفس السلع والخدمات بفضل المنافسة المفتوحة عبر الأنترنت. الاقتصاد الرقمي يقرب المسافات بين الأسواق بحيث ترتفع الشفافية وتخف تكلفة البحث عن تفاصيل يمكن أن تكون مخبأة أمام المواطن أو المستهلك. وجود الأنترنت يسمح للمواطن بانتقاء الأفضل وليس الأقرب أو ما يتوافر أمامه. وجود الأنترنت يسهل على المواطن ايجاد عمل اذ كيف يمكن لطالب متخرج حديثا أن يعرف أين تكون فرص العمل وما هي ميزاتها. الاقتصاد الرقمي يخفف من البطالة ويعطي الشباب فرصا أكبر في النجاح في الحياة العملية. الاقتصاد الرقمي يسهل على الشركات الوصول الى المستهلك بحيث يتواصلان عبر شبكات الاتصالات ومواقع الشركات الالكترونية والرقمية. الاقتصاد الرقمي غيّر طبيعة الأسواق والعلاقات بين العملاء في الانتاج والاستهلاك.

ثانيا: تكلفة النسخ التي تكون زهيدة في السلع الرقمية مما يطرح مشكلة تسعير السلعة وبالتالي خصوصية المؤلف. ما هي فوائد تقدمة سلع عامة رقمية كويكيبيديا أو أي خدمة مجانية عبر الأنترنت؟ ما هي استفادة المقدم وبالتالي لماذا يقوم بهذا العمل دون مقابل واضح؟ خطورة توافر السلع الرقمية مجانا تكمن في السماح للمخربين بارسال الفيروسات الرقمية عبر الشبكة لتدمير المعلومات والتشهير. تأمين سلامة الشبكات الرقمية مهم لجميع المتعاملين عبرها. هنا يكمن أيضا دور الدولة في تأمين سلامة الشبكات عبر قوانين وتقنيات تسمح باحترام المعلومات والخصوصيات. لا يمكن ترك المواطنين مكشوفين أمام المخربين. لا بد من الحماية.

هنالك أسواق مهمة جدا تعاني من النسخ المجاني كالموسيقى والتأليف الأكاديمي والتكنولوجي. المهم هو حماية الابداع والمبدعين عبر منع السرقة بحيث يستمر الانتاج الفكري الذي يميز المجتمعات ويطورها. قوانين حماية الملكية الفكرية هي أكثر أهمية في الاقتصاد الرقمي من التقليدي لأن النسخ أسهل ودون تكلفة. تشير الوقائع الى أن الرقمية لم تقتل الابداع في الاقتصاد التقليدي لأن تكلفة الانتاج والتوزيع انخفضت كثيرا في التقليدي وبالتالي لم تصب في الصميم من المنافسة الرقمية. كما أن تطور التكنولوجيا سهّل للسلطات الرسمية تطبيق قوانين حماية الملكية الفكرية ومعاقبة السارقين والمخلين بالقوانين. تحاول السلطات الرسمية عمليا في المجتمعات المتطورة حماية الفكر والابداع والخلق بشتى الوسائل.

ثالثا: تكلفة النقل التي انهارت في الاقتصاد الرقمي. لم يعد للمسافة قيمة حيث ينقل كل شيء عبر القارات البعيدة من دون أي تكلفة تذكر. تستعمل الأجيال الجديدة شبكات الأنترنت بذكاء وكفاءة كبيرة فتخفف تكلفة فاتورة الاتصالات الى أقصى الحدود. كما أن أسعار استعمال الشبكات قد تدنت الى حدود لم يعرفها الانسان سابقا. لا شك أن الدول المتطورة سهلت استعمال الاتصالات عبر زيادة السرعة وتخفيض التكلفة، وما زلنا متأخرين عموما في الدول العربية والنامية عن قطار الاتصالات الفاعل والسريع.

رابعا: تكلفتا التتبع والتحقق اللتان انخفضتا أيضا. يمكن اليوم تتبع الأشخاص والزبائن واستهداف مجموعات معينة ليس لغايات أمنية وإنما تسويقية وتجارية اذ تسهل الأنترنت تحديد الأهداف وبالتالي تخفيض تكلفة التسويق. يمكن تتبع المجموعات المستهدفة والتحقق من النتائج بحيث تصل الشركات الى أهدافها وتتحقق من النتائج بأدنى التكلفة الممكنة. هنا تكمن أهمية المناقصات والمزايدات عبر شبكات الأنترنت، اذ من المستحيل تحديد الأسعار لجميع الزبائن تجنبا للاستغلال وسوء المعاملة. استعمال البيع بالمزاد يعزز الشفافية ويرفع المسؤولية من ناحية كيفية تحديد السعر والى من يتوجه البيع.

ان أهمية الاقتصاد الرقمي هو تأثيره على تصرفات المواطنين. أعطت الكورونا فرصة كبيرة للاقتصاد الرقمي كي يسيطر عمليا على كافة جوانب الاقتصادات. لن يعود الاقتصاد العالمي الى ما كان عليه قبل الكورونا لأن سيطرة الرقمي ليست ظرفية بل ستبقى الى زمن بعيد. المستقبل سيكون مختلفا وهنالك قطاعات ستتغير كليا لأن الانسان اعتاد اليوم على وسائل وتقنيات أخرى ستبقى طوعا معه. الموضوع ليس فقط مادياً أي في تأثير الاقتصاد الرقمي على التكلفة، بل هو انساني اذ يغيّر طريقة عيش المواطن وتصرفاته في المجتمع والأسواق. لن يستمر الاقتصاد الرقمي في الركائز والقواعد التي يعمل من ضمنها اليوم، اذ سيلحقه التطور الذي سيغير معالمه تبعا للاستعمال والأخطاء والحاجات. الاقتصاد يكون دائما في خدمة الانسان وليس العكس.