كتبت مريم سيف الدين في صحيفة “نداء الوطن”:
أصاب فيروس “كورونا” الضاحية، كما أصاب أعظم مدن العالم، ففرض فجأة على سكانها نمط عيش جديداً وحازماً في تطبيق القوانين لم يعتادوه. خفتت ضوضاء المنطقة المكتظة، وسيطر عليها الخوف مصحوباً أحياناً بأدعية التوسّل إلى الله وطلب شفاعة الأئمة. وفي الضاحية يمتزج الحذر من كل شيء برغبة البقاء والاستمرار بالروتين المعتاد.
وهنا، في برج البراجنة، وإن دخلت حجرك المنزليّ، فلا مجال للعزلة، وإن اعتزلت الناس وحجرت نفسك عنهم منذ زمن. هنا تتداخل الأحياء في ما بينها ، لا مسافة شرعية بين الأبنية التي ولدت من رحم الفوضى، بعيداً من أيّ تنظيم. تفتح نافذة تكتشف أن جارك قد بنى حديثاً “بلكوناً” عند حدود نافذتك، رافضاً إلا أن يستثمر في كل فراغ يجده، إلا فراغ الوقت. لا مكان لعزلة هادئة وإن في زمن الكورونا، أصوات الجيران تصدح باستمرار، لتخبرك تفاصيل حياتهم، خلافاتهم، أذواقهم في الطعام… صراخ الأطفال يرتفع أيضاً، بعضهم يمتلك ترف اللهو مع أترابه وأنسبائه داخل الأحياء. فيما أطفال آخرون في عزلتهم، يحاولون فهم أسباب نفيهم بعيداً من أترابهم، خارج المجتمع. صراخ أمّهاتٍ يعلو، تتأمل في سبل التربية حيث تلجأ أمٌّ للتهديد كسلاح تخضع به طفلها لسلطتها، فتسأل في نفسك لمَ لا يتحاوران بودٍّ فتكون عزلتك أكثر هدوءاً، ويكون الكون كذلك؟ ثم تفكّر في عزلة الأطفال في حجرهم، في الضغط النفسي الذي يواجهه جيل ناشئ. تتأمّل الأطفال في حيّك وعلى الطرقات يواجهون الخوف من مرضٍ مستجدٍّ بكمامة وقفّازين وعقل يحاول إدراك ما يجري. فجأة ارتدى الجميع كماماتهم، ولم يعد يتسنى لأحد أن ينسى للحظة الخطر وينزع عنه الخوف. تتأمّل الوجوه وتعاطي الناس مع عدة وقاية باتت أشبه بـ”تراند” لا يقي من شرّ فيروس.
ذوق الجيران الموسيقي رديء كما ذوق شريحة كبيرة تتناسى همومها في الأيام العادية بالاستماع إلى أغانٍ هابطة، أو بنقاشات هابطة تخترق مسمعك. هنا تتداخل مداخل الأبنية، فيكفي أن يخرج الفرد إلى أمام منزله ليكسر حجره، على الرغم من حذر الجميع وأخذهم التهديد هذه المرة على محمل الجد، بانتظار خطابٍ يعلن النّصر على الكورونا. وبالانتظار، لم يعتد الناس بعد على الحجر، يضجرون منه بسرعة، فهم أبناء بيئة يُكثر فيها البشر من الاحتكاك في ما بينهم، ما يصعِّب عليهم أكثر وأكثر الانتقال فجأة إلى نمط جديد من العلاقات الإجتماعية عكس ما اعتادوه.
تزور أم فادي جارتها أم محمد حاملة بيدها “كمشة كمامات” كبادرة حسن نية ودليل حرص على سلامتها، تجلسان، تشربان القهوة، تتحدثان عن الكورونا وعن مخاوفهما. ثم تعود الجارة إلى منزلها، أو ربما إلى زيارة أخرى. شابٌّ آخر ملّ الحجر المنزلي يزور صديقه، يقترح عليه أن يدعو أصدقاء آخرين علهم يتسلّون، وكأن الحجر الجماعي لا ينقل العدوى. لكن الحق يقال، إنهُ الملل وملايين السنين من تطور الكائن الاجتماعي. كائن وجد نفسه فجأة أمام واقع جديد وهو مخيّرٌ بين الموت والعزلة. يقاوم محاولة فيروس مستجدّ إعادته إلى نقطة البداية، إلى ما قبل نشوء الجماعة.
ولأنّ للضّرورة أحكامها، فرضت الضرورة هذه المرة بعضاً من سلطة الدولة على المنطقة، فطبّق قرار التعبئة العامّة فيها إلى حد كبير في الأيام الأولى. وأظهرت جولة بين الأحياء والشوارع حجم الالتزام بالقرار، وإن خرقته بعض الممارسات، قبل أن تزداد حركة الناس في اليومين الماضيين. هو خوف استنفره خطاب السيد حسن نصرالله الذي نبه ناسه لحجم الخطر، بعد أن استخفّ به كثير منهم وتركوا مسألة الوقاية منه للأدعية والتوسل للأولياء. فكلام نصرالله مؤشر معتمد لقياس حجم الخطر، يؤمن بدقته معظم المقيمين هنا.
وعلى الرغم من مفعول الخطاب في لحظته، يدرك من يعرف هذه البيئة جيداً أن التزام الناس بقرارات الحكومة خلال الفترة المقبلة لن يكون سهلاً، ويفرض تحدّياً كبيراً. فعلى الرغم من خطر تفشي الوباء، يخشى الناس خطر الموت جوعاً، فيحاول بعضهم التمسك بمصدر رزقه، والاستمرار بالعمل وإن أقفل محله. يقف خارجاً منتظراً اتصالاً، أو أن يأتي زبون ما ليعطيه حاجته. خدمة التوصيل المجاني باتت محاولة خلاص لهؤلاء بعد أن فشلوا في تجاوز القرار. فمنهم من حاول جسّ نبض البلدية، فكانت بالمرصاد وواجهت المخالفين، ومن استهتر أو استخفّ ساخراً بهيبتها، كما اعتاد، استنجدت بأمن الدولة لقمعه.
هو بعض من هيبة الدولة أدخله الفيروس إلى الضاحية، ويشكّل تجربة جديدة. فالمنطقة التي عجزت الدولة سابقاً عن قمع مخالفات سير فيها، بات بإمكانها إقفال محالها! وكأن ما قبل الكورونا ليس كما بعده، فبعده رأينا قدرة الدولة تظهر فجأةً. ما يثبت المؤكد، بأنّ للموقف السياسي دوراً في تراجع أو تقدّم نفوذ الدولة في المنطقة، وأنّ بالإمكان فرض سلطة الدولة في الضاحية متى سمحت لها الأحزاب بذلك.