كتب جورج طوق في صحيفة “الجمهورية”:
في زمن الوباء، يصبح التزام الحَجر الصحي، على بساطته، فعلاً نبيلاً من المقاومة الفردية والثورة الذاتية لصالح الجماعة. فالثورة التي افترشت بجموعها شوارع لبنان في 17 تشرين لحياةٍ فيه أكثر إنسانية، تلحّفت حَجرها منتصف آذار لرفع المرض عنه. حَجر الثورة تدبيرٌ مسؤولٌ ومفعمٌ بالشجاعة والإيثار.
ما إن التزمت الثورة حَجرها الموقت، حتى هجرت السلطة جُحرها المزمن. وبين حَجر الأولى وجُحر الثانية فوارق تتخطّى ترتيب حروف التسميات وتشكيلها، رغم تقارب نغميّاتها اللفظية. ففي حَجر الثورة التزامٌ شجاعٌ بالمسؤولية وفي جُحر السلطة انكفاءٌ جبانٌ عنها. وفي الوقت الذي أولت فيه الثورة صحة أهلها كامل اهتمامها، اغتابت السلطة الجُحرية استراحة الهتافات الثورية لتمارس هوايتها المفضلة واليتيمة؛ الحُصيصة الطائفية. الحُصيصة، أي ما جُمع من نتف الشيء، أفصح لهواية السلطة من المحاصصة. فالأخيرة توحي بنيل المستحق، فيما السلطة تتناتش، بشهية الضباع، طرائد لم تصطدها.
ليست السلطة في لبنان كائناً جُحرياً فحسب، بل أيضاً ليليّ. في الغابة، لا تخرج الحيوانات الليلية إلّا والضواري نيام لافتقارها للحيلة الدفاعية، فالحُلكة غطاؤها الوحيد للاغتنام الآمن. في غابات الحكم للدول الناجحة، المسؤولية هي الضارية القانونية والأخلاقية المتربِّصة بالسلطات، وقد تنجو منها الأخيرة غير مرّة، لكنّها تسقط، لهفوةٍ ما، أمام القانون والناخب. لسلطة ما بعد الطائف في لبنان حيلٌ دفاعية منهجية تمحورت حول أمان الجُحر للهروب من الواجب، وحول الحُلكة للالتفاف على المسؤولية. نجت هذه السلطة مراراً بتعويذتها تلك، حتى روّضت ضواريها وأدخلتها الجُحر. في الحكم، كما في الغابة، يخلّ ذلك بالتوازن الطبيعي. والرزق السائب يعلّم الناس الحرام، ناهيك عمّا قد يعلّمه لسارقين محترفين.
قد يكون اتفاق الطائف محطةً مفصليّةً بمسار النمط السلطوي لشريعة الغاب اللبنانية، لكنّه اقتصر على تبديل طائفي لدفّة الحكم فقط، مع تبدّلات ساذجة فرضها استشهاد الرئيس الحريري في العام 2005 وأخرى، أقلّ سذاجة، طرأت بعد حرب تموز.
استردّت ثورة 17 تشرين شيئاً من التوازن المفقود لطبيعة الحياة السياسية والاجتماعية في لبنان، إذ أعادت للساحة اللبنانية هيبة ضواريها ودفعت بزعماء السلطة والطوائف والنهب إلى جُحرهم. أسقطت الثورة حكومة العهد، أجهضت تكليفين حكوميّين، منعت انعقاد جلستين نيابيّتين، أربكت الوحش المصرفي، استردّت نقابة المحامين، جمّدت أعمال تشويه مرج بسري الأثري، عقّمت الشاشات من دجل أمراء الحرب، هشّمت كبرياء المدلّلين الوقحين، مزّقت صوراً عملاقة وقزّمت عمالقتها، حرّرت عشرات الثوار المعتقلين، شيطنت التمييز العنصري والطائفي والجندري وطردت المسؤولين من المقاهي وطاردتهم كالأرانب المذعورة. كلّ ذلك في خمسة أشهر. ثورة تشرين هي محطّةٌ مفصليّةٌ وجذريّةٌ في مسار السلطة في لبنان.
دخلت الثورة، على وقع انتشار الكورونا، حَجرها الصحي، وخرجت السلطة من جُحرها المَرضي. بدا حنين الأخيرة جلياً لزمن ما قبل الثورة. استغلّت فراغ الشوارع لاصطياد شواغر الدولة ومعاقبة الثوار ومكافأة العملاء والترشيد المذلّ لمداخيل الفقراء على شبابيك المصارف واللعب بأسعار المحروقات وإحياء تنفيعات سد بسري واستعادة الشاشات وبيع كمامات الحماية من المرض في أوج تفشّيه وترك أسعار السلع الأساسيّة لضمائر التجار. ترى السلطة في الوباء نعيماً لها مقابل جحيم الثورة عليها، وهي، من دون شكّ، تُردّد في الوقت الراهن، وبكلّ اغتباط: وباء قومٍ عند سلطةٍ فوائد.
لن يصمد الوباء طويلاً، وستعود الحياة للساحات والمدارس والمسارح والطرقات وكلّ زوايا البلاد. لن تخلع الثورة حينها الكمامة ولن ترمي عبوة التعقيم. فبعد هزيمة وباء الكورونا، ستهزم الثورة وباءً من نوعٍ آخر. الثورة ستهزم السلطة.