Site icon IMLebanon

“إذا لم يكن دفاعاً عن الحزب.. فماذا يكون”؟

كتب حنا صالح في صحيفة “نداء الوطن”:

روى لي يوسف خطار الحلو يوماً أنَّ الشيوعيين في لبنان تظاهروا في خمسينات القرن الماضي ضد إقامة الأوتوسترادات لأنها كانت ستُستخدَم مدارج لطائرات قوات حلف شمال الأطلسي “الناتو” للسيطرة على البلد، وبما يمكِّنه استطراداً من تسجيل نقطة متقدمة على حلف وارسو!

وفي المناسبة نفسها (في سياق حوارات نشرتها في جريدة الأخبار)، سألت نقولا الشاوي عن فهمه لتلك النكتة السياسية عن الشيوعيين التي تقول: “إنه إذا أمطرت في موسكو فتح الشيوعيون في لبنان الشماسي”!… فردَّ ممتدحاً السخرية في النكتة وقال: “كانت الأولوية التسابق على إبداء التأييد السياسي للمواقف التي تصدر عن موسكو عاصمة الشيوعية يومذاك”!

قاطعته: “فقط التأييد السياسي؟”… إبتسم أبو زهير وتابع قائلًا: “من فؤاد الشمالي إلى يوسف إبراهيم يزبك – وكلاهما تأثر بانتصار ثورة أكتوبر- كان الوضع الاجتماعي هو المحرك الأكبر، بالتوازي مع منحى استكمال الاستقلال. وبعيداً من محاولات التأثير أو الرغبات التي كانت تصدر مراتٍ عن موفد الكومنترن (حيث كان هذا الأخير ينتدب موفديه إلى كل البلدان)، كانت أولوية الشمالي ويزبك تحقيق العدالة وإنصاف العامل وضمان الحقوق والتحرر من الأجنبي. ولا شك أنَّ الشيوعيين جذبتهم منذ ثلاثينات القرن الماضي نضالات ومعارك حول العالم، فنظموا حملات التضامن والدعم. وفي حالة فريدة من نوعها التحق الشيوعي البيروتي فؤاد قازان بتلك الفصائل التي شُكِّلت في أوروبا، للقتال مع الجمهوريين الإسبان ضد معسكر الجنرال فرانكو الذي كان يتمتع بدعم كبير من سلاح الجو النازي… لكنَّ كفاح الشيوعيين ضد النازية ومن أجل التحرر كان مؤثِّراً بوصفه نموذجاً، على غرار ما جرى في فرنسا، ولا سيما معركة تحرير باريس وكذلك في إيطاليا. فقد اختفى الشيوعيون تحت الأرض ولم يهاجروا بل تصدروا معركة التحرير، ولم يطالبوا بحصة ثمناً لكفاحهم، بل سلَّموا السلاح وذهبوا إلى صناديق الانتخابات واحتكموا إليها. كل ذلك كان في قلب اهتمامات الشيوعيين اللبنانيين، وستترك تلك التجارب بصمات كبيرة في تجربتهم.

ومنذ ما قبل المؤتمر الثاني لـ”الحزب الشيوعي” في العام 1968 وبعده على وجه الخصوص، بلور الحزب الأشكال النضالية التي نهض بأعبائها. كانت ثمَّة أولويتان طبعتا عمله أكثر من أي أمر آخر: ففي مقابل سياسة “قوة لبنان في ضعفه” ارتأى النضال لحماية الحدود من العدو الاسرائيلي، وفي مواجهة تقدُّم دور قوى الاحتكار في الداخل رفع شعارات النضال الاجتماعي من أجل العدالة وحقوق الفئات الكادحة. ولأن الإسهام في حماية الحدود الجنوبية يشكِّل مؤازرة لنضال الشعب الفلسطيني فقد عمل على بلورة فكرة مزدوجة، حيث شكَّل “قوات الأنصار”، من جهة أولى، بمشاركة شيوعيين عرب تصدِّياً للعدو الإسرائيلي فلم تصب نجاحاً؛ ليليها من جهة ثانية تشكيل “الحرس الشعبي” من أبناء القرى الجنوبية بحث كان هدفه الأول طمأنة الأهالي كي يبقوا متشبثين بأرضهم. ومن أهازيج تلك الفترة: “أنصار تضرب تل أبيب… وحرس شعبي ع الحدود”! وما يثير الاهتمام فعلًا أنه سقط الشهيد علي أيوب في التوقيت نفسه تقريباً على أرض عيناتا الحدودية في مواجهة المعتدي الإسرائيلي، كما سقط الشهيد نعيم درويش في النبطية حين كان على رأس تظاهرة مزارعي التبغ.

بعد حرب السنتين، طرأ الكثير من العوامل السلبية على دور الشيوعيين، ولا مجال في هذه العجالة للتفصيل فيها، بيد أنَّ احتلال العدو العاصمة بيروت كان محطة مفصلية في عملية التحرير. وليس أمراً بسيطاً أن يبادر جورج حاوي بالشراكة مع محسن ابراهيم إلى إطلاق “جبهة المقاومة الوطنية” (جمُّول) من قلب بيروت المحتلة. وقد تمكَّنت “جمُّول” من أن تحرر العاصمة، ولتنجز حتى العام 1985 تحرير ثلثي الأراضي اللبنانية المحتلة… وأظن أنه بعيداً من شعار أطلق من أجل التعبئة: “الأرض لمن يحرِّرها”، لم يطلب الشيوعيون اللبنانيون ثمناً أو حصة لقاء ذلك النضال الوطني، بل إنَّ المحتل السوري استبعدهم وحدهم من التعيينات النيابية بعد الطائف، لأنهم كانوا الفريق الوحيد بين القوى السياسية الذي حافظ على استقلالية مواقفه السياسية، التي لم تتقبلها دمشق، ولم تكسرها الاغتيالات الآثمة خلال الثمانينات.

وسيدور الزمن دورته، وسيكون “اليسار الديموقراطي” في العام 2005 في مقدم الصفوف من أجل تحقيق الاستقلال الثاني، وليدفع غالياً الثمن باغتيال سمير قصير أبرز رموزه، ثم جورج حاوي الذي انحاز باكراً إلى انتفاضة الاستقلال.

طيلة هذه المرحلة احتضن مثقفون كبار نهج الشيوعي مسرحاً وموسيقى وتشكيلاً. من “أعرب ما يلي” يعقوب شدراوي إلى “جحا في القرى الأمامية” جلال خوري، إلى بول غيراغوسيان الذي خلَّد المقاومين في قلعة الشقيف بلوحة “أرنون حارس الجنوب” الشهيرة، ومعهم كوكبة من الموسيقيين والمغنين.هل يشكِّل “حزب الله” سبب أزمات البلد أو أنه واحد من أعراضها؟ لن أناقش صديقي د. محمد علي مقلد، لكن عندما يكتب أنَّ الكل متشابه في خدمة مصالح الخارج، يبتعد كثيراً عن الموضوعية في خلطة لا تقبل الخلط (!). أعرف جيدًا أنَّ الشيوعي تعاطف مع ربيع براغ في العام 1968، ليعود وينتظم موقفه السياسي “في الصف”، لكنَّه لم يرسل فصيلًا من الحرس الشعبي لمؤازرة الجيش الأحمر في احتلاله تشيكوسلوفاكيا. ثم إنَّ الزعم بأن علاقة “حزب الله” اللبناني بإيران تشبه تلك التي كانت للشيوعيين مع الاتحاد السوفياتي، كأني به يفوِّت عن عمد أنَّ الشيوعين – بين كثيرين من المقاومين دفاعًا عن سيادة البلد – سُحقوا أمام دبابات الأسد في العام 1977، عندما كانت موسكو تدعم الغزو السوري.

يعرف القاصي والداني، ويعرف د. مقلد خير على وجه التأكيد أن زعيم “حزب الله” هو من قال صراحةً إنه يفتخر بأنه جندي في جيش الولي الفقيه، وهو من قال صراحةً أيضاً إن سلاحه وتموينه وتمويله من إيران، وإنه إذا كانت إيران بخير فهو بخير… وبالأمس القريب قال السيد نصرالله إنه إذا انهارت الدولة اللبنانية فرواتب أعضاء حزبه وتوابعها مؤمنة (…) ولا شك أنَّ السيد يعلم أن من قاد حرب تموز من الضاحية كان قائد فيلق القدس قاسم سليماني، وأنَّ ميليشيا “حزب الله” هي قوة الفيلق الضاربة، ولا سيما بعدما تأكد للجميع دورها في حرب إيران على الشعب السوري. كل المقارنات تسقط – ولا أريد صدقاً الدخول في النوايا – ويثبت الواقع مرةً جديدة أنَّ بيروت واقعة تحت الهيمنة الإيرانية، من خلال “الحزب” الذي تغوَّل بدويلته على الدولة. أما بالنسبة إلى سؤال المقال وعنوانه “ليس دفاعاً عن حزب الله!” ألا وهو: “كيف لنا أن نقتنع بأنَّ “حزب الله” ليس إيرانيًا؟”، فهل يملك د. مقلد فعلاً جواباً شافياً أمام وقائع يعرفها كل الناس؟