كتبت غادة حلاوي في صحيفة “نداء الوطن”:
لملم أنطوان جبران بالأمس آخر خيوط سنينه في العمل الإداري والرقابي عن مكتب رئاسة إدارة الموظفين في مجلس الخدمة، ليحال الى التقاعد تاركاً المركز الأبرز الذي يعنى بالموظفين في القطاع العام شاغراً.
وكأن وباء “كورونا” أشاح ببصر الحكومة عن تعيين خلف له بعدما أوغلت في الحديث وأمعنت عن آلية التعيين في المراكز المالية، وابتدعت الشروط والشروط الإستباقية المضادة في سوق المزايدة و”الحرص”، ليستفيق موظفو الادارة اللبنانية على زمن بلا رئيس لإدارتهم يتولى أمورهم ومهامهم. ولكن الابرز ان هيئة مجلس الخدمة ستشغر بانتهاء انتداب رئيستها القاضية فاطمة الصايغ، التي ستعود الى سلكها القضائي في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، لتصبح أعلى هيئة رقابية إدارية شاغرة، ولتعكس واقع الإدارة اللبنانية الحافل بالشغور الموصوف وبالمراكز المشغولة بالتكليف والإنابة والوكالة، التى يتغنى بالنيل منها كل من سلك طريق السياسة والحكم، أو أراد ان يزايد الحالي فيها على السابق أو المعارض على الموالي.
لم تشهد اجهزة الرقابة الإدارية مرحلة حرجة كالتي تعيشها اليوم او ستعيشها مع بلوغ انطوان جبران السن القانونية، وشغور مركز إدارة الموظفين الذي يمكن وصفه بأنه عقل الادارة وعنق الزجاجة فيها. وفي الرابع والعشرين من الجاري تنتهي فترة انتداب القاضية الصايغ كرئيس لمجلس الخدمة المدنية، ويصبح شاغراً ايضاً مركز أعلى جهة إدارية في الدولة اللبنانية. فالسؤال هنا كيف ستتصرف الحكومة مع شغور من هذا النوع؟
الصايغ ستعود الى مجلس شورى الدولة كقاضية لأن القانون لم يعد يجيز لها الاستمرار لأكثر من ست سنوات، ومع إحالة رئيس إدارة الموظفين عضو هيئة مجلس الخدمة المدنية جبران على التقاعد، نكون امام شغور أبرز مركزين مهمين في الادارة اللبنانية.
وبذلك يقتصر المجلس على عضو واحد هو نتالي يارد وتشغل منصب رئيس إدارة الأبحاث والتوجيه. حتى ان انتداب رئيس التفتيش المركزي بالوكالة للقيام بأعمال رئيس مجلس الخدمة، ينتهي خلال الفترة ذاتها وبالتالي فإن الحاجة ملحة لإستصدار مرسوم جديد، لأن المرسوم الحالي يشارف على الانتهاء وهو محدد بسنة واحدة.
وفي حال أعيد استصدار مرسوم لتوليته القيام بالوكالة بمهام رئيس مجلس الخدمة، فإن العقدة الاساسية هي في ان هيئة التفتيش المركزي لم تنتظم اعمالها حتى تاريخه، نظراً إلى الخلافات الحادة التي تعترض مسار إنعقاد هيئاتها، وبالتالي فإن التعيينات، اية تعيينات بحاجة الى استطلاع رأي هيئة مجلس الخدمة المدنية، ومن غير المنطقي ان يتم تشكيل آلية للتعيينات الادارية من دون ان يكون هناك دور لمجلس الخدمة أو أقله لرئيس مجلس الخدمة، كما كان معمولاً به في الآلية التي صدرت عن مجلس الوزراء العام 2010. تعاني الادارة اللبنانية على مستوى الرقابة من عقبات جمة أبرزها التدخل السياسي الحاد في التعيينات، والذي لم تحد منه الآلية التي اعتمدت في بعض التعيينات السابقة. إذ إن معظم أسماء الذين فازوا في مباراة المقابلات كانت اسماؤهم تنشر في الإعلام قبل ان تصدر بشكل رسمي، وقبل ان يعرف بها معظم الوزراء.
ويبدو أن مصير التعيينات المالية سيكون شبيهاً لمصير التشكيلات الاخيرة التي قام بها مجلس القضاء الأعلى، والتي ما زالت عالقة على مفارق التجاذبات السياسية، والتي أظهرت دور السلطة السياسية الكبير وحجمه المؤثر في منع صدور هذه التشكيلات.
هل الحكومة على بيّنة من هذا الأمر، واذا لم يتم إجراء حركة تعيينات سريعة على مستوى مجلس الخدمة المدنية فإن التعيينات الاخرى حكماً ستكون معطلة لسبب جوهري، وهو ان السلطة الرقابية الاساسية في هذا الشأن غير متوفرة.
أصاب التهميش مجلس الخدمة المدنية عندما تم الإمتناع عن إستصدار نتائج الفائزين في أكثر من مباراة، لأسباب طائفية وسياسية ألقت بثقلها وظلالها على عمل المجلس وأدخلته في أتون التجاذبات السياسية. السؤال المطروح هو على أي أساس سيتم اعتماد الآلية التي يعيّن بموجبها كل من رئيس مجلس الخدمة المدنية ورئيس إدارة الموظفين؟ وهل اذا تمّ تعيين رئيس التفتيش جورج عطية للقيام بمهام رئيس مجلس الخدمة المدنية بالوكالة، سيكون نصيبه أفضل مما حصل معه في التفتيش المركزي؟
شغور إضافي
على أن الشغور ليس حصراً على الفئة الاولى بل إن الشغور في الفئة الثانية على مستوى مدراء ورؤساء مصالح، يُعدّ الأكبر ويتجاوز السبعين في المئة، في حين أن الشغور على مستوى الوظائف القيادية من الفئة الثالثة كرئيس دائرة او قسم هو بحوالى ستين في المئة. واللافت أنه كلما أتت حكومة أو أتى عهد يركز على الفئة الاولى ويسقط من حسابه الفئتين الثانية والثالثة، وهذا الشغور أثّر بشكل كبير على مسار الوظائف كلها في الدولة، بما فيها عند عملية إختيار الفئة الاولى. إذ ان الشغور الذي يتجاوز السبعين في المئة من الفئة الثانية، يجعل من الصعب أن يتم إختيار موظفي الفئة الأولى من بين موظفي الفئة الثانية وترفيعهم، ولكنه يكون الأسهل للسلطة السياسية أن تختار موظفي الفئة الأولى من خارج الملاك، وإن كانت تتم تغطية ذلك من خلال ابتداع آليات الاختيار للتعيين خلافاً لما ينص عليه الدستور، وهذا ينطوي على أمرين أساسيين: الأول ان السياسيين يقرون بالحجم الكبير لتدخلهم في التعيينات الادارية، والثاني أن مأزق التعيينات بحاجة دائماً الى عمليات تجميل.
على أن فداحة الأمر تبرز عندما يدرك اللبنانيون انه منذ عشر سنوات مضت وحتى تاريخه، لم يتجاوز ترفيع موظفين وتعيينهم في الفئة الثانية عدد أصابع اليدين، وهذا يشكل خللاً ادارياً كبيراً يحبط موظفي الفئة الثالثة ويبدد آمالهم في الترفيع، ويجعل الفئة الثانية التي هي عماد الادارة شاغرة ومشغولة من قبل من يعينهم السياسيون والوزراء، فتصبح الادارة أكثر التصاقاً وطواعية للسياسيين، ولا سيما اذا عرف اللبنانيون ايضاً انه منذ عشرين سنة اي منذ العام 2000، لم يجر المعهد الوطني للادارة الا دورتين لموظفي الفئة الثالثة، علماً ان الامر الطبيعي أن تكون هناك بصورة دورية دورة كل سنتين، وهذا ما تسبب ايضاً في شغور على مستوى الفئة الثانية وتسبب بإحباط كبير لدى خريجي الجامعات من حملة الشهادات، الذين يحق لهم التقدم لإجراء مباراة للدخول الى وظائف الدولة بشكل رسمي وقانوني.